بقلم: فتح عبد الفتاح كساب
كاتب ومترجم
دموع فينيس للشاعر والقاص علي طه النوباني هي أول تجربة روائية له. صدرت عام 2017 وتقع في مائة وستين صفحة من القطع المتوسط، وتحمل الرواية جديدا في شكلها ومضامينها من نواح عديدة.
أن يكتب الشاعر قصة قصيرة، فهذا ليس أمرا جديدا لأن مشتركات الشعر والقصة القصيرة كثيرة من مثل قِصر النص وتكثيف الصور... أما الرواية فهي أمر مختلف تماما، فهي تحتاج إلى نَفَس نصي طويل وحوارات مطوّلة وتعدّد في الأصوات أكثر مما تحتاجه القصة أو القصيدة. كما أن آثار الشعر قد تكون واضحة في التجربة الروائية للشاعر من ناحية اللغة الشعرية المُستَخدمة في النص، وقَصر الرواية وسرعة التداعيات والأحداث. هذه الملاحظات – إن صحَّت – تضع محاولة تقديم قراءة أو مادة نقدية في حالة من القلق والتوتر لجهة التعاطي مع النص، قراءة أو نقدا. وهي مغامرة أتمنى ألّا أخرج منها ظالما لنفسي أو للكاتب.
جديد رواية الشاعر علي النوباني هو أن أحداثها تجري في خطين زمنيين مختلفين: الأول خط حديث والآخر خط روماني قديم. كل مسار منهما له فصوله الخاصة، ونظام ترقيمه الخاص، لكن القارئ المدقق يلمس تلاقيات في الخطين الزمنيين اللذين تدور أحداثهما في مكان واحد هو جرش في الحديث وجراسا في القديم. الجديد الثاني في الرواية هو أن الكتابة الروائية عموما – إن لم أكن مخطئا – تدور في دائرة ثنائية المركز والأطراف في المقاربة المكانية، أي أن العاصمة أو المدن الكبيرة هي محور الأحداث في غالبها وتكون القرى أو مدن الأطراف الصغيرة مكانا فرعيا أو نقاط عبور أو ذكريات استرجاعية للشخصيات في الرواية. بالنسبة لدموع فينيس، كان العكس حيث عمّان هي الثانوية وجرش هي المحورية، وقد تكون إشارة من الكاتب أن حالة بلد ما يتطابق فيها المركز مع الأطراف في مشتركات مهيمنة، إيجابية أو سلبية.
يفتتح الراوي الرواية بصدمة قوية – حادث سيارة – ويظهر " وهيب" الشخصية المحورية في كل الخط الروائي الزماني الحديث متشائما تترى على رأسه المصائب، ويصطدم بواقع من التناقضات في تعاطي بعض الشخصيات الفرعية مع الحادث وما يجب القيام به. والفصول السبعة الاولى تقديم لباقي الشخصيات الرئيسية وبعض الأخرى الفرعية؛ مثلا زكية زوجة وهيب التي تظهر بصورة الأنثى التقليدية التي تتعامل مع عرّافة لتشخيص مشاكلها وإيجاد حلول لها حيث يطلق عليها وهيب لقب "زكية الهبلة". أما ابنته سناء المشلولة الدائمة النظر إلى جرش القديمة من نافذة غرفتها فقد كانت صاحبة طاقات إبداعية تفجرت بعد معاناتها مع الشلل والعزلة النسبية. تمّ تقديم الشخصيات في هذا الجزء وما يليه بصيغة الثنائيات الضدية، وهذه على ما أظن إشارة واضحة من الكاتب أو الراوي أن الثيمة الأساسية تدور حول حالة فصام وتناقض ذاتي تمارسه الشخصيات تبعا للمواقف التي تتعرض لها.
وعلى العكس من الخط الزمني الحديث يقتتح الراوي الخط الزمني الروماني بوصف يغلب عليه الرومانسية، الماء في نهر الذهب والحياة النابضة والحركة في الأسواق؛ مقابل جرش الحديثة التي تعاني شحا في الماء وحياة أشبه ما تكون بالآلية. لكن في وسط تلك العبارت الرومانسية تظهر كلمات توحي بتوتر لاحق؛ فعبارة " الحر الشديد و" الحرب " التي يخوضها دوروتيو ينبجس أمامنا التقاء مع الخط الحديث: (حديث سعيد الطويل عن الجهاد في أفغانستان) أثناء لقائه مع وهيب.
تستمر فصول الرواية ضمن تقنية إبراز الثنائيات الضدية، لكن هذه المرة ليس في الشارع بل في مكان مغلق هو مقر الحزب والعديد من الشخوص ممن هم أعضاء في الحزب. لقد دأب الروائيون على إبراز الأحزاب المعارِضة ضمن حالة من المظلومية في صراعها الثقافي أو اشتباكها السياسي مع السُلطة؛ لكن الصورة هنا مختلفة تماما؛ فالوصف الذي يقدمه وهيب لمكتب الحزب يقدم للقارئ حالة مختلفة، هل هو شعور بالتعاطف؟ هل يُدرِج هؤلاء ضمن دائرة الخصوم؟ فكآبة المكان والضوء الأقرب للإعتام، وفحوى حديث الرفاق في الاجتماع، واستخدام وهيب عبارة "ترتيب الرفاق طبقيا" في حزب يسترشد بالماركسية إنما هو حالة من المفارقة الشديدة الإيحاء، واستخدامه عبارة "الرفاق المخبرون" هي دلالة مباشرة وليست إيحاء على حالة من التواطؤ الصامت بين قيادات الأحزاب المعارضة والجهات الأمنية التي تشد حبالها أو ترخيها حسب سيناريو مُتَّفق عليه ضمنيا، بل إنّ هنالك حالة الانتهازية التي عرضها وهيب في حديثه عن "الرفيق" الذي أصبح وزيرا وصمت بعض الرفاق عن تجاهله للحزب والاكتفاء برأي زوجته ، مقابل مصالح ذاتية.
الإشارة الأهم والأكثر ثقلا في موضوع الحزب، هي حالة الهلهلة المعرفية لأعضاء الحزب، فالرفيق المخبر كان يكتب تقريرا للدائرة الأمنية أكثر وضوحا وأقلّ أخطاء مما يكتبه في جريدة الحزب. وتتوالى حالات الفصام أو التضاد في شخصيات الرواية؛ فالمدرسة التي يُفترض أنها تعمل على تطوير الحالة العقلية للطلاب تتعرض فيها سناء لحالة من الاستنكار ردا على تساؤلاتها حول مسألة الابتلاء الرباني كحالة خلاصية عند حديثها مع معلمة التربية الإسلامية وإلى الوصم والاستهزاء من قبل معلمة التربية الرياضية.
في الخط الروماني كذلك ظهرت إشارات واضحة تلتقي مع الخط الحديث: في الاحتفال الطقسي مثلا: سابينيوس- الفتى المخصي- يؤدي دور زيوس (كبير الآلهة) بحضور الحاكم والكاهن والعشّار الذين يصنعون الأحداث باسم الإله، ثم رغبة والد فينيس في شكر الآلهة في أن يقدم جرة نبيذ لإله الخمر وخروفا للربة الحامية للمدينة (أرتيمس) والتي تنقلب عليه وعلى أسرته ويلا وثبورا فيما بعد.
ثم يظهر صوت سناء وانشغالها بوسائل التواصل الاجتماعي كنوع من التخفيف عنها بعد فقدانها لحركة ساقيها، حيث تزيد وسائل التواصل تعقيد الحياة بالنسبة لها؛ فالتناقض الواضح بين الحقيقي والافتراضي في شخصيات الأصدقاء الافتراضيين تنم عن عدم رغبة في مواجهة واقع أكبر من احتمالهم أو محاولة إخفاء واقع- التقنع؛ لأن وسائل التواصل الاجتماعي تصبح البديل الآمن عن الواقع الفعلي الذي يعرفك فيه الجميع.
لقد بدا واضحا وجود رابط بين آليات إدارة عمل المؤسسات وإدارة الأحزاب؛ فكلاهما لا يبحث عن الأكفأ أو الأكثر معرفة وخبرة وإنما عن الولاء، فمروان زميل وهيب الحريص على أداء العبادات أثناء وقت العمل هو نفسه الذي ينقل كل حركات وسكنات الموظفين للمدير، وهو نفسه الذي أصابته حالة سعار حين رأى قوام لميس الفاتن، وقام بنقل طاولته مقابل طاولتها، أما القيام بالعمل فهو الحالة الثانوية، وكذلك أمر الحزب، فكلما كنت أكثر مبدأية والتزاما بنضالاتك وتزاوج بين الشعارات والتطبيق تكون أكثر تهميشا.
يظهر صوت الراوي في عرضه لمسألة الغفلة عن الأبناء وتغيّرهم في خضم انشغال الآباء بهموم الحياة اليومية، ويظهر ذلك في علاقة سناء وأخيها سامح مع أبيهما وهيب؛ فهما متفهمان لظروف الأسرة ويتحملان جزءا من المسؤولية الثقيلة، إلا أن طريقتهما في الحوار وتساؤلاتهما العميقة والمحرجة جعلت وهيبا يبدو مصدوما ومرتبكا أمام ما يرى ويسمع.
تظهر الازدواجية في الشخصية عند وهيب أيضا، فعلاقته بلميس كانت متنفسا مما يواجهه من ضغوط العمل والبيت، كما كان يرى في تلك العلاقة مبررا لما يفتقده من حميمية وجموح في علاقته الزوجية مع زوجته زكية؛ فزكية أقرب للتعفف عند إقامة العلاقة الحميمة معه ويبدو الأمر وكأنه واجب أو عبء ثقيل بالنسبة له، واللافت أن وهيب برر هذه العلاقة عبر تقنية الصوت الداخلي بينما أخبرته لميس عن تجربتها مع زوجها السابق بصوت مسموع.
لجأ الراوي إلى استخدام تقنية الصدمة والمفاجأة في الخط الروماني والحديث؛ ففي الفصل الخامس الروماني ظهرت هذه التقنية مبرزة الثنائيات الضدية بكل وضوح؛ فَ (نيرفا) المتجهة للسوق لشراء "عبد" تنهار أمام مشهد أخيها بين يدي النخاس معروضا للبيع، وقبل ذلك كانت تتضرع للآلهة لحفظ زوجها من أخطار السفر، لكنها تكيل الشتائم لنفس الآلهة في السوق عند مشاهدة أخيها معروضا للبيع.
وتمثلت الصدمة في الخط الحديث في العديد من المشاهد منها انفجار وهيب وعدم قدرته على احتمال المزيد من تناقضات واستفزازات زملائه في العمل حيث يبدأ زميله مروان أسئلة حول الغرب وتحلله الأخلاقي منتظرا من وهيب الموافقة؛ فيواجهه وهيب بسيل من الانتقادات والحجج التي تُظهر عجز الشرق عن الإنجاز والتطور مما يؤدي إلى ارتفاع حدة النقاش نتيجة انفعال وهيب وعجز مروان عن الرد الذي يدفعه إلى الطعن في أخلاقيات وهيب بالسؤال " هل ترضى ذلك لأختك أو بنتك؟".
كان لتقنية الاسترجاع والصوت الداخلي حظا وافراً في الرواية، وقد ظهر ذلك عند وهيب مثلا في الفصل 21 في استرجاعه لملابسات زواجه من زكية، وظهرت كذلك في الفصل 26 في حديث لميس عن إخفائها لبعض تفاصيل تجربتها مع زوجها السابق، وعند سناء في الفصل 15 في حديثها عن معاناتها وآراء المحيطين بها حول إعاقتها.
لقاء الخط الزمني الروماني مع الخط الزمني الحديث كان واضحا في عدة مشاهد، فسفر لميس أو هروبها إلى أمريكا بسبب صعوبة الصمود في وجه الظروف القاسية والخوف من مواجهة زوجها السابق بعد خروجه من السجن يقابله هروب فينيس من عبوديتها إلى مقبرة عائلة دوروتيو. وتقديم لميس الصدفة الزرقاء هدية لوهيب يوم وداعها له قبل السفر يقابله حمل فينيس لصدفة مع أشياء أخرى معها. والصدفة ترمز للولادة أو الانبثاق وهي إحدى الرموز الدالة على إلهة الحب أفروديت، وكذلك يتقاطع الخطان الزمنيان مجددا في حديث مروان مع الموظف الجديد غسان بديل لميس حول المزرعة التي يمتلكها غسان في جرش، وما وجده أثناء حفره لحفرة عميقة للزرب (إحدى طرق الشواء) وعدم اكتراثه بما وجد لأنه لم يكن ذهبا ( مدمعة وصدفة وسهام وهيكل عظمي).
كانت ذروة أحداث الرواية انتحار سناء وانهيار عالم وهيب، ظهر الاستسلام الكلي بمشاهداته في السوق بعد انتهاء العزاء، بدءا بيافطات أبو فنيطل مرشح العشيرة والحزب، مررورا بصابر الآجو وحالة البؤس التي يعيشها واليافطة التي تعلو رأسه ومكتوب عليها " الوطن للجميع" إلى بلادَة أحاسيسه تجاه سعيد وحديثه الطويل الممل عن منجزات الجهاد في سوريا، وكانت آخر بوادر استسلامه هي لا مبالاته تجاه مفارقة نشر دول الخليج للديمقراطية.
تستمر الثنائيات الضدية حتى آخر الرواية في حديث سعاد شقيقة زكية العائدة من كندا للاستقرار في الوطن، وتظهر سعاد أو كارلا كما تحب أن تنادى مثالا على حالة فصام الشخصية العربية لحظة خروجها من محيطها المحافظ أو محيطها القناع؛ ففي كندا تعمل في أي عمل متوفر بغض النظر عن الظروف ولا تعير للتقاليد التي تربت عليها أية أهمية كما يتبين من حديثها عن علاقتها بأزواجها الأربعة؛ فهي تخلع أو تتزوج بمبرر أو دون مبرر؛ وتنصح ابنتها بالقيام بنفس السلوكات وتصف الذكر على أنه " آلة تفريخ". والمغترب يعيش هناك دون قيود لكن عندما يكبر الأطفال تبدأ رواسب الثقافة الأم تفعل فعلها خاصة إذا كان المولود أنثى، وآخر التناقضات هو عدم القدرة على العمل دون ممارسة الغش والخداع الذي انطبع عليه المغترب قبل الهجرة، وهي السلوكات التي يمارسها الأفراد في الوطن دون أدنى شعور بتأنيب الضمير، وقد مثلت سعاد (كارلا) هذا المنحى حير تمثيل.
أخيرا ظهر التكامل في اللقاء بين الروماني والحديث في هروب فينيس إلى القبر ودخول وهيب إلى غرفة سناء، ورؤيته للقصة التي كتبتها وتسمّر عينيه على لوحة اليد الممتدة في الفراغ التي رسمتها سناء.
هل هو اليأس حد الانتحار؟ هل هو الصمت في صخب التناقضات؟ هل هو الرفض المعزول عن الفعل؟ هذه قراءة في رواية "دموع فينيس" لعلي النوباني، وربما يختفي بين السطور أشياء أخرى قد نراها في قراءات أخرى.
كاتب ومترجم
دموع فينيس للشاعر والقاص علي طه النوباني هي أول تجربة روائية له. صدرت عام 2017 وتقع في مائة وستين صفحة من القطع المتوسط، وتحمل الرواية جديدا في شكلها ومضامينها من نواح عديدة.
أن يكتب الشاعر قصة قصيرة، فهذا ليس أمرا جديدا لأن مشتركات الشعر والقصة القصيرة كثيرة من مثل قِصر النص وتكثيف الصور... أما الرواية فهي أمر مختلف تماما، فهي تحتاج إلى نَفَس نصي طويل وحوارات مطوّلة وتعدّد في الأصوات أكثر مما تحتاجه القصة أو القصيدة. كما أن آثار الشعر قد تكون واضحة في التجربة الروائية للشاعر من ناحية اللغة الشعرية المُستَخدمة في النص، وقَصر الرواية وسرعة التداعيات والأحداث. هذه الملاحظات – إن صحَّت – تضع محاولة تقديم قراءة أو مادة نقدية في حالة من القلق والتوتر لجهة التعاطي مع النص، قراءة أو نقدا. وهي مغامرة أتمنى ألّا أخرج منها ظالما لنفسي أو للكاتب.
جديد رواية الشاعر علي النوباني هو أن أحداثها تجري في خطين زمنيين مختلفين: الأول خط حديث والآخر خط روماني قديم. كل مسار منهما له فصوله الخاصة، ونظام ترقيمه الخاص، لكن القارئ المدقق يلمس تلاقيات في الخطين الزمنيين اللذين تدور أحداثهما في مكان واحد هو جرش في الحديث وجراسا في القديم. الجديد الثاني في الرواية هو أن الكتابة الروائية عموما – إن لم أكن مخطئا – تدور في دائرة ثنائية المركز والأطراف في المقاربة المكانية، أي أن العاصمة أو المدن الكبيرة هي محور الأحداث في غالبها وتكون القرى أو مدن الأطراف الصغيرة مكانا فرعيا أو نقاط عبور أو ذكريات استرجاعية للشخصيات في الرواية. بالنسبة لدموع فينيس، كان العكس حيث عمّان هي الثانوية وجرش هي المحورية، وقد تكون إشارة من الكاتب أن حالة بلد ما يتطابق فيها المركز مع الأطراف في مشتركات مهيمنة، إيجابية أو سلبية.
يفتتح الراوي الرواية بصدمة قوية – حادث سيارة – ويظهر " وهيب" الشخصية المحورية في كل الخط الروائي الزماني الحديث متشائما تترى على رأسه المصائب، ويصطدم بواقع من التناقضات في تعاطي بعض الشخصيات الفرعية مع الحادث وما يجب القيام به. والفصول السبعة الاولى تقديم لباقي الشخصيات الرئيسية وبعض الأخرى الفرعية؛ مثلا زكية زوجة وهيب التي تظهر بصورة الأنثى التقليدية التي تتعامل مع عرّافة لتشخيص مشاكلها وإيجاد حلول لها حيث يطلق عليها وهيب لقب "زكية الهبلة". أما ابنته سناء المشلولة الدائمة النظر إلى جرش القديمة من نافذة غرفتها فقد كانت صاحبة طاقات إبداعية تفجرت بعد معاناتها مع الشلل والعزلة النسبية. تمّ تقديم الشخصيات في هذا الجزء وما يليه بصيغة الثنائيات الضدية، وهذه على ما أظن إشارة واضحة من الكاتب أو الراوي أن الثيمة الأساسية تدور حول حالة فصام وتناقض ذاتي تمارسه الشخصيات تبعا للمواقف التي تتعرض لها.
وعلى العكس من الخط الزمني الحديث يقتتح الراوي الخط الزمني الروماني بوصف يغلب عليه الرومانسية، الماء في نهر الذهب والحياة النابضة والحركة في الأسواق؛ مقابل جرش الحديثة التي تعاني شحا في الماء وحياة أشبه ما تكون بالآلية. لكن في وسط تلك العبارت الرومانسية تظهر كلمات توحي بتوتر لاحق؛ فعبارة " الحر الشديد و" الحرب " التي يخوضها دوروتيو ينبجس أمامنا التقاء مع الخط الحديث: (حديث سعيد الطويل عن الجهاد في أفغانستان) أثناء لقائه مع وهيب.
تستمر فصول الرواية ضمن تقنية إبراز الثنائيات الضدية، لكن هذه المرة ليس في الشارع بل في مكان مغلق هو مقر الحزب والعديد من الشخوص ممن هم أعضاء في الحزب. لقد دأب الروائيون على إبراز الأحزاب المعارِضة ضمن حالة من المظلومية في صراعها الثقافي أو اشتباكها السياسي مع السُلطة؛ لكن الصورة هنا مختلفة تماما؛ فالوصف الذي يقدمه وهيب لمكتب الحزب يقدم للقارئ حالة مختلفة، هل هو شعور بالتعاطف؟ هل يُدرِج هؤلاء ضمن دائرة الخصوم؟ فكآبة المكان والضوء الأقرب للإعتام، وفحوى حديث الرفاق في الاجتماع، واستخدام وهيب عبارة "ترتيب الرفاق طبقيا" في حزب يسترشد بالماركسية إنما هو حالة من المفارقة الشديدة الإيحاء، واستخدامه عبارة "الرفاق المخبرون" هي دلالة مباشرة وليست إيحاء على حالة من التواطؤ الصامت بين قيادات الأحزاب المعارضة والجهات الأمنية التي تشد حبالها أو ترخيها حسب سيناريو مُتَّفق عليه ضمنيا، بل إنّ هنالك حالة الانتهازية التي عرضها وهيب في حديثه عن "الرفيق" الذي أصبح وزيرا وصمت بعض الرفاق عن تجاهله للحزب والاكتفاء برأي زوجته ، مقابل مصالح ذاتية.
الإشارة الأهم والأكثر ثقلا في موضوع الحزب، هي حالة الهلهلة المعرفية لأعضاء الحزب، فالرفيق المخبر كان يكتب تقريرا للدائرة الأمنية أكثر وضوحا وأقلّ أخطاء مما يكتبه في جريدة الحزب. وتتوالى حالات الفصام أو التضاد في شخصيات الرواية؛ فالمدرسة التي يُفترض أنها تعمل على تطوير الحالة العقلية للطلاب تتعرض فيها سناء لحالة من الاستنكار ردا على تساؤلاتها حول مسألة الابتلاء الرباني كحالة خلاصية عند حديثها مع معلمة التربية الإسلامية وإلى الوصم والاستهزاء من قبل معلمة التربية الرياضية.
في الخط الروماني كذلك ظهرت إشارات واضحة تلتقي مع الخط الحديث: في الاحتفال الطقسي مثلا: سابينيوس- الفتى المخصي- يؤدي دور زيوس (كبير الآلهة) بحضور الحاكم والكاهن والعشّار الذين يصنعون الأحداث باسم الإله، ثم رغبة والد فينيس في شكر الآلهة في أن يقدم جرة نبيذ لإله الخمر وخروفا للربة الحامية للمدينة (أرتيمس) والتي تنقلب عليه وعلى أسرته ويلا وثبورا فيما بعد.
ثم يظهر صوت سناء وانشغالها بوسائل التواصل الاجتماعي كنوع من التخفيف عنها بعد فقدانها لحركة ساقيها، حيث تزيد وسائل التواصل تعقيد الحياة بالنسبة لها؛ فالتناقض الواضح بين الحقيقي والافتراضي في شخصيات الأصدقاء الافتراضيين تنم عن عدم رغبة في مواجهة واقع أكبر من احتمالهم أو محاولة إخفاء واقع- التقنع؛ لأن وسائل التواصل الاجتماعي تصبح البديل الآمن عن الواقع الفعلي الذي يعرفك فيه الجميع.
لقد بدا واضحا وجود رابط بين آليات إدارة عمل المؤسسات وإدارة الأحزاب؛ فكلاهما لا يبحث عن الأكفأ أو الأكثر معرفة وخبرة وإنما عن الولاء، فمروان زميل وهيب الحريص على أداء العبادات أثناء وقت العمل هو نفسه الذي ينقل كل حركات وسكنات الموظفين للمدير، وهو نفسه الذي أصابته حالة سعار حين رأى قوام لميس الفاتن، وقام بنقل طاولته مقابل طاولتها، أما القيام بالعمل فهو الحالة الثانوية، وكذلك أمر الحزب، فكلما كنت أكثر مبدأية والتزاما بنضالاتك وتزاوج بين الشعارات والتطبيق تكون أكثر تهميشا.
يظهر صوت الراوي في عرضه لمسألة الغفلة عن الأبناء وتغيّرهم في خضم انشغال الآباء بهموم الحياة اليومية، ويظهر ذلك في علاقة سناء وأخيها سامح مع أبيهما وهيب؛ فهما متفهمان لظروف الأسرة ويتحملان جزءا من المسؤولية الثقيلة، إلا أن طريقتهما في الحوار وتساؤلاتهما العميقة والمحرجة جعلت وهيبا يبدو مصدوما ومرتبكا أمام ما يرى ويسمع.
تظهر الازدواجية في الشخصية عند وهيب أيضا، فعلاقته بلميس كانت متنفسا مما يواجهه من ضغوط العمل والبيت، كما كان يرى في تلك العلاقة مبررا لما يفتقده من حميمية وجموح في علاقته الزوجية مع زوجته زكية؛ فزكية أقرب للتعفف عند إقامة العلاقة الحميمة معه ويبدو الأمر وكأنه واجب أو عبء ثقيل بالنسبة له، واللافت أن وهيب برر هذه العلاقة عبر تقنية الصوت الداخلي بينما أخبرته لميس عن تجربتها مع زوجها السابق بصوت مسموع.
لجأ الراوي إلى استخدام تقنية الصدمة والمفاجأة في الخط الروماني والحديث؛ ففي الفصل الخامس الروماني ظهرت هذه التقنية مبرزة الثنائيات الضدية بكل وضوح؛ فَ (نيرفا) المتجهة للسوق لشراء "عبد" تنهار أمام مشهد أخيها بين يدي النخاس معروضا للبيع، وقبل ذلك كانت تتضرع للآلهة لحفظ زوجها من أخطار السفر، لكنها تكيل الشتائم لنفس الآلهة في السوق عند مشاهدة أخيها معروضا للبيع.
وتمثلت الصدمة في الخط الحديث في العديد من المشاهد منها انفجار وهيب وعدم قدرته على احتمال المزيد من تناقضات واستفزازات زملائه في العمل حيث يبدأ زميله مروان أسئلة حول الغرب وتحلله الأخلاقي منتظرا من وهيب الموافقة؛ فيواجهه وهيب بسيل من الانتقادات والحجج التي تُظهر عجز الشرق عن الإنجاز والتطور مما يؤدي إلى ارتفاع حدة النقاش نتيجة انفعال وهيب وعجز مروان عن الرد الذي يدفعه إلى الطعن في أخلاقيات وهيب بالسؤال " هل ترضى ذلك لأختك أو بنتك؟".
كان لتقنية الاسترجاع والصوت الداخلي حظا وافراً في الرواية، وقد ظهر ذلك عند وهيب مثلا في الفصل 21 في استرجاعه لملابسات زواجه من زكية، وظهرت كذلك في الفصل 26 في حديث لميس عن إخفائها لبعض تفاصيل تجربتها مع زوجها السابق، وعند سناء في الفصل 15 في حديثها عن معاناتها وآراء المحيطين بها حول إعاقتها.
لقاء الخط الزمني الروماني مع الخط الزمني الحديث كان واضحا في عدة مشاهد، فسفر لميس أو هروبها إلى أمريكا بسبب صعوبة الصمود في وجه الظروف القاسية والخوف من مواجهة زوجها السابق بعد خروجه من السجن يقابله هروب فينيس من عبوديتها إلى مقبرة عائلة دوروتيو. وتقديم لميس الصدفة الزرقاء هدية لوهيب يوم وداعها له قبل السفر يقابله حمل فينيس لصدفة مع أشياء أخرى معها. والصدفة ترمز للولادة أو الانبثاق وهي إحدى الرموز الدالة على إلهة الحب أفروديت، وكذلك يتقاطع الخطان الزمنيان مجددا في حديث مروان مع الموظف الجديد غسان بديل لميس حول المزرعة التي يمتلكها غسان في جرش، وما وجده أثناء حفره لحفرة عميقة للزرب (إحدى طرق الشواء) وعدم اكتراثه بما وجد لأنه لم يكن ذهبا ( مدمعة وصدفة وسهام وهيكل عظمي).
كانت ذروة أحداث الرواية انتحار سناء وانهيار عالم وهيب، ظهر الاستسلام الكلي بمشاهداته في السوق بعد انتهاء العزاء، بدءا بيافطات أبو فنيطل مرشح العشيرة والحزب، مررورا بصابر الآجو وحالة البؤس التي يعيشها واليافطة التي تعلو رأسه ومكتوب عليها " الوطن للجميع" إلى بلادَة أحاسيسه تجاه سعيد وحديثه الطويل الممل عن منجزات الجهاد في سوريا، وكانت آخر بوادر استسلامه هي لا مبالاته تجاه مفارقة نشر دول الخليج للديمقراطية.
تستمر الثنائيات الضدية حتى آخر الرواية في حديث سعاد شقيقة زكية العائدة من كندا للاستقرار في الوطن، وتظهر سعاد أو كارلا كما تحب أن تنادى مثالا على حالة فصام الشخصية العربية لحظة خروجها من محيطها المحافظ أو محيطها القناع؛ ففي كندا تعمل في أي عمل متوفر بغض النظر عن الظروف ولا تعير للتقاليد التي تربت عليها أية أهمية كما يتبين من حديثها عن علاقتها بأزواجها الأربعة؛ فهي تخلع أو تتزوج بمبرر أو دون مبرر؛ وتنصح ابنتها بالقيام بنفس السلوكات وتصف الذكر على أنه " آلة تفريخ". والمغترب يعيش هناك دون قيود لكن عندما يكبر الأطفال تبدأ رواسب الثقافة الأم تفعل فعلها خاصة إذا كان المولود أنثى، وآخر التناقضات هو عدم القدرة على العمل دون ممارسة الغش والخداع الذي انطبع عليه المغترب قبل الهجرة، وهي السلوكات التي يمارسها الأفراد في الوطن دون أدنى شعور بتأنيب الضمير، وقد مثلت سعاد (كارلا) هذا المنحى حير تمثيل.
أخيرا ظهر التكامل في اللقاء بين الروماني والحديث في هروب فينيس إلى القبر ودخول وهيب إلى غرفة سناء، ورؤيته للقصة التي كتبتها وتسمّر عينيه على لوحة اليد الممتدة في الفراغ التي رسمتها سناء.
هل هو اليأس حد الانتحار؟ هل هو الصمت في صخب التناقضات؟ هل هو الرفض المعزول عن الفعل؟ هذه قراءة في رواية "دموع فينيس" لعلي النوباني، وربما يختفي بين السطور أشياء أخرى قد نراها في قراءات أخرى.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق