السبت، 6 نوفمبر 2021

مسلسل شيخ العرب همام بين الدراما والتاريخ

 

بقلم: علي طه النوباني

قبل عشرين عاما، ومع بداية انتشار الانترنت، بدا الأمر وكأن زمن المسلسلات التلفزيونية قد انتهى، وبخاصة أن مواعيد بثها الثابتة كانت تتعارض مع التزامات ومواعيد الكثيرين، ولكن البث المفتوح على مواقع التواصل الاجتماعي، وعلى رأسها يوتيوب، أعاد هذه الأعمال إلى الواجهة، وبخاصة أنه أصبح بوسع أي كان أن يشاهد حلقة أو أكثر في أي وقت يشاء.

تؤثر الأعمال الدرامية في المشاهدين تأثيرا بالغا من حيث يشعرون أو لا يشعرون، وهي بالتالي تساهم في تشكيل عقل المجتمع وما يطرأ عليه من تغيرات إيجابية كانت أو سلبية، وقد اعتدنا أن نتجاهل الأعمال الرديئة على الرغم مما تحدثه من أثر غير محمود، وأن نتناول بالنقد الأعمال المتميزة من أجل تحقيق التفاعل الذي يؤدي إلى مزيد من الجودة والإتقان.

مسلسل شيخ العرب همام الذي كتبه عبد الرحيم كمال، وأخرجه حسني صالح، وتصدَّر بطولته النجم اللامع يحيى الفخراني مع مجموعة من النجوم مثل صابرين، ريهام عبد الغفور، محمود عبد الغني، عزت أبو عوف، عمر الحريري، عبد العزيز مخيون، مدحت تيخة، سامح السريطي، وغيرهم، كان من أهم الأعمال التلفزيونية الهادفة التي أنتجت في العقدين الأخيرين.

كُتِبَ عَلى مُقدمة المسلسل أنَّه مستوحىً مِن معلوماتٍ تاريخية مُقتضبة، وأنَّ تفاصيلَهُ من وَحيِ خَيال الكاتب، وبالتالي فإنَّ النُموَّ الدراميَّ للشُّخوص، والتناسق الفنيَّ للعملِ يقعان على عاتق الكاتب والمُخرِج بالدَّرجة الأولى، ولا يُمكِن على الأغلب ردُّها إلى روايات تاريخية متناقضة.

 شَخصية إسماعيل في العمل كانت تمتاز بالقسوة والأحادية والغطرسة، فهو وإن كان مجبرا بحكم العُرف القاسي للصَّعايدة على منع تزويج ابنته ليلى لجابر إلا أن ذلِكَ لا يَمنَعُ أنْ يَتَساءل وَلو لمرَّةٍ واحدةٍ في مونولوج داخلي عن مَعنى هذِه الأعرافِ الَّتي دَمَّرَت حياة ابنته، وحرمتها من فرصتها في العيش، وتكوينِ أسرةٍ مثل بقية البنات. وَبَدلا من تَقديمِ مِثلِ هذا المونولوج كنا نرى إسماعيل وهوَ يُدخِّن على نرجيلته بعصبية.

لقد ذَهَبَ إسماعيلُ إلى أبعدَ من ذلك حين أَحرقَ بيتَ جابر الَّذي يُقيم مع أسرته وهو في حماية شيخ العرب همامّ!  وَقَبِلْنا مُجازِفينَ بأَن يَعفُو عَنهُ همامٌ على الرّغم من أن إسماعيل بهذا قدْ ضَرَبَ عُرفاً أساسيا عُرضَ الحائط، لكنَّ الصَّدمَة كانت عِندَما قام همام بتولية إسماعيلَ قيادة الجيش رغم كلِّ ما عَرفَه عن إِسماعيل من طَيشٍ وَغَضَبٍ وَمُيول انقلابية وأحادية في التفكير، وعلى الرغم من كل ما عرفناه عن همام من حكمة ورزانة وعدالة.

بل إن هماماً لما بَلَغَهُ أَنَّ إِسماعيل قد قتل جابرا، تجاهل الأمر، وكأن المخرج يريد القفز إلى النهاية التي يريدها هو لا النهاية التي تسير إليها الأحداث حسب منطق تسلسلها، وكأنه يقول لم يبق سوى حلقات قليلة ولا بد من السرعة.

نعم، إنَّ المعلومة التاريخية تقول إنَّ هماما قد آوى على بك الكبير وساعده على استعادة منصبه في القاهرة، لكن شخصية همام كما هي مطروحة في المسلسل لا تبدو في إطار متناسق مع طبيعتها العامة عندما تؤوي علي بك، بل إن إسماعيل الأهوج المتسرع يبدو أكثر حكمة من همام في هذا الأمر.

ليس من المقبول في الدراما أن يتحول الحكيم إلى أهوج، والأهوج إلى حكيم في لحظات، ثم يعودان كلٌّ إلى طبيعته السابقة دون مبررات يشي بها تصاعد الأحداث والمواقف المفصلية التي تطور الشخوص وتغيرهم، وما عدا ذلك فإن العمل سوف يُسَرِّب لَوثَةً عَقليَّة للمُشاهِدِ الغافل تُساهمُ في تَشويهِ فكرته عن الطَّبيعَةِ الإِنسانية من ناحية تطورها وتفاعلها مع مُحيطها وعلاقاتها الاجتماعية.

ولنأخذ مثالا آخر، فكم من المَرّات قام إسماعيلُ بتذكير همامٍ بكونه لم يُنْجِب أَولاداً فيم تأَكَّدَ من السياق أن إسماعيلَ لَديه الكَثير من الأولاد. والسُّؤال الذي ألحَّ عليَّ: أينَ كانَ أَولاد إسماعيل في الظروف الصعبة التي مرَّت عَليه، لقد كان بعد كل مشكلة يلجأ إلى النَّرجيلة وكأن المخرج أو الكاتب يريد أن يوفِّر مُمَثلاً أو أَكثر. ولنذهب إلى أبعد من ذلك: عندما هَرَبتْ زوجةُ إسماعيل مع ابنتها المريضة بالحب إلى بيت أخيها همام، وطلب منها أخوها همام أن تعود إلى بيت زوجها، قالت أنها ستبحث عن مكان تقيم فيه مع ابنتها، ألم يكن الأولى أن يكون واحدٌ من أولادها خيارا ولو على سبيل الوساطة مع زوجها المتحجر.

أما تلك النهاية التي اختارها المخرج للمسلسل فهي في اعتقادي صادمة بشكل مبالغ فيه: خيانة إسماعيل، موت همام، قيام نساء البلدة بطرد جابر إلى الجبل، الهزيمة التامة في الحرب، ألم يكن من الأولى أن يرمي المخرج وردة نحو المشاهد العربي الذي شاهد المسلسل ثلاثين حلقة، ولتكن هذه الوردة نهاية مفتوحة لقصة حب ليلى وجابر مثلا، لأن أي خلاف آخر قد يسبب اختلافا مع حقائق تاريخية.

ألم يكن مؤلما التركيز الشديد على دمار فرشوط في الحلقة الأخيرة رغم أن مصر الرائعة بقيت دُرَّةَ الدُّهور، وَمُنيَةَ المُسافِر، وَوَلّادَة الأمل رغم كل الدواهي والمصائب. فَلماذا لم تنتقل الكاميرا من الدَّمار إلى الحُقول التي بقيت، والنيل الذي ما زال يجري، والمصريِّ الذي ما زال واقفا مثل أبي الهول ولو لدقيقة؛ لتقول أن أبا الذهب لاحقا تآمر على علي بك، وقامت الدولة العثمانية بإلغاءِ الحُكمِ الثلاثي في مصر، ثمَّ ذهبتْ الدَّولَةُ العُثمانية، وَبَقِيتْ مِصر.

ألا يستحق المشاهد العربي بصيص ضوء في هذا الظلام الحالك؟

بقي أن أحسب لهذا العمل المتميز تقديمه الرائع لروح الشرق من خلال شخصية الشيخ سلام الذي أبدع النجم مدحت تيخة في أدائه مقدما تصورا صوفيا للعالم يمزج بين قيم الحب والصفاء والحرية. لقد تابعت المسلسل دقيقة دقيقة، وأعجبت أيما إعجاب بالأداء المتميز للنجوم الذين شاركوا فيه، وإنما هو عتب على المخرج والمؤلف لإلقاء نظرة فاحصة على التناسق الدرامي للعمل ونمو الشخوص لما لذلك من أثر بالغ على المتلقي. 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق