السبت، 15 يناير 2011

قل نعم


قل نعم
قصة :  توبايس وولف
ترجمة   : فتح كساب


      كانا ينظفان الأطباق ، كانت زوجته تغسلها و يقوم هو بتجفيفها . قام بغسل الأطباق في الليلة الماضية . و بخلاف معظم الرجال الذين عرفهم ، كان أكثر حماساً للأعمال المنزلية .  قبل أشهر قليلة خَلت سمع إحدى صديقات زوجته تهنئها لوجود مثل هذا الزوج المتفهم، وقال في نفسه أنا أحاول .  كانت المساعدة في غسيل الأطباق طريقـته لإظهار مدى تفهمه .
     تحدّث مع زوجته عن أشياء مختلفة، وبطريقة ما تحدثا في موضوع زواج البيض من السود . و قال أنه رغم كل الاعتبارات يرى أنّ هذا الأمر فكرة سيئة .
     " لماذا ؟ " سألت زوجته .
     كان لزوجته أحياناً تلك النظرة؛ حيث تقطب حاجبيها و تعض شفتها السفلى و تحدّق بشيءٍ ما في الأسفل . و عندما يشاهدها هكذا يعرف أن عليه أن يبقى صامتاً ، و لكنه لم يفعل ذلك أبداً . في الواقع جعله الأمر يتحدث أكثر . وها هي تُظهر هذه النظرة الآن . تساءلت مرة أخرى " لماذا ؟ "  ووقفت هناك و يدها في داخل الطبق ، لم تكن تغسله و لكنها ترفعه فوق الماء .
     فقال " اسمعي ، ذهبت إلى المدرسة مع السود و عملت مع السود و عشت في نفس الشارع مع السود و كانت أمورنا تسير دائماً بشكل جيد . و لا أحتاج الآن أن تأتي إليّ و أنت تلمحين بأني عنصري " .
     " لم ألمح إلى أي شيء " قالت زوجته ، و بدأت تغسل الإناء مرة أخرى ، و تديره بشكل دائري كما لو كانت تشكِّله ، و أضافت " أنا فقط لا أعرف ما الخطأ في الأمر عندما يتزوج البيض من السود ، و هذا كل شيء " .
     فرد زوجها " إنهم ليسوا من نفس الثقافة كما هو الحال معنا . استمعي إليهم بعض الأحيان – حتى أن لهم لغتهم الخاصة . و لا بأس بذلك بالنسبة لي . أنا أحب أن أسمعهم و هم يتحدثون " . و كان الأمر كذلك ، و لسبب ما جعله هذا الأمر يشعر دائماً بالسعادة . و أضاف " لكنه صعب . إن شخصاً من ثقافتنا و آخر من ثقافتهم لن يستطيعا فهم بعضهم البعض " .
     " مثلما تعرفني ؟ " سألت زوجته .
     " نعم . مثلما أعرفك " .
     " و لكن إذا كانوا يحبون بعضهم " قالت زوجته . كانت تغسل الآن بشكل أسرع و لا تنظر إليه .
     فكر ، يا إلهي ، و قال " لا تأخذي كلامي حرفياً . أُنظري إلى الإحصائيات ، معظم تلك الزيجات تنتهي بالإنفصال " .
     " الإحصائيات " . كانت تكوم الأطباق على لوح التجفيف بترتيب رائع و تضربها بقطعة القماش . كانت معظم الأطباق مدهنة ، و كان هناك بقايا طعام بين أصابع الشوك . " حسناً " قالت له " ماذا  عن الأجانب ؟ أفترض أنك تعتقد بنفس الشيء حول الزواج من الأجانب " .
     " نعم " قال لها و أضاف " في الحقيقة أعتقد ذلك . كيف يمكنك أن تفهمي شخصاً قادماً من ثقافة مختلفة تماماً ؟ " .
     " مختلف ؟ " قالت زوجته " يعني ليس مثلنا " .
     فرد بحدة " نعم مختلف " و كان غاضباً من لجوئها إلى هذه الخدعة ، و هي إعادة كلماته حتى تبدو غبية جداً أو بلا قيمة حقيقية . " هذه وَسِخَة " وألقى جميع الأواني الفضية في المجلى مرةً أخرى .
     تـحولَ لون الماء إلى الرمادي . حدّقت في الـماء وضغطت شـفتيها معاً وأدخلت يديها تـحته . "آه " صرخت و قفزت إلى الخلف . أمسكَت يدها اليمنى من الرسغ و رفعتها . كان إبهامها ينزف .
     " لا تتحركي يا آن " قال لها ابقي في مكانك " . صعد الدرج راكضاً ثم إلى الحمام و قلّب صندوق الإسـعاف بحثاً عن الكحــول و القطن و الأربطة . وعندما عاد كانت متكئةً على الثلاجة وعيناها مغمضتان ، وما تزال تمسك بيدها . أمسك بيدها ولف إصبعها بالقطن . توقف النزف . ضغط الإصبع ليرى عمق الجرح، برزت نقطة دم، مرتعشة براقة وسقطت على الأرض . وبالنسبة لإبهامها فقد نظرت إلى زوجها باتهامية .
     " إنه سطحي " قال لها ، وأضاف " و غداً لن تعرفي أنه كان موجوداً أصلاً " كان يأمل أن تقدّر سرعته في تقديم الإسعاف لها، وقد تصرف بدافع الاهتمام بها ، لم يكن في باله أي شيء فيما يخص الحصول على مقابل منها . لكن هذه الفكرة استحوذت عليه الآن . ستكون لفتة لطيفة من جانبها ألا تبدأ بتلك المحادثة مرة أخرى لأنه تعب منها . و قال " سأنهي هنا ، اذهبي واستريحي " .
     " لا بأس " قالت له " سأقوم بالتجفيف " .
     بدأ بغسل الأواني الفضية مرة أخرى ، مركّزاً على الشُُوك .
     " إذن " قالت له " لم تكن لتتزوجني لو كنت سوداء " .
     " لأجل الرب يا آن " .
     " أليس ذلك ما قلته " .
     " لا ، لم أقل . إن السؤال بكامله سخيف فلو كنت سوداء لم نكن لنلتقي على الأرجح ، و سيكون لك أصدقاؤك و سيكون لي أصدقائي . و الفتاة السوداء الوحيدة التي عرفتها في حياتي كانت شريكتي في نادي الحوار ، و كنت أخرج معك في حينها " .
     " ولكن لو التقينا و كنت أنا سوداء ؟ " .
     " على الأرجح كنت ستواعدين شاباً أسود " و التقط أنبوب التنظيف وقام برش طقم الفضة . كان الماء ساخناً جداً لدرجة أن لون المعدن تحول إلى الأزرق الشاحب ثم عاد فضياً مرة أخرى .
     " لنقل أني لم أفعل " قالت له " لنقل أنني سوداء و غير مرتبطة و التقينا ووقعنا في الحب " .
     نظر إليها نظرة خاطفة . كانت تراقبه و كانت عيونها براقة .
     " اسمعي " قال لها مستخدماً أسلوباً منطقياً " هذا أمر سخيف . لو كنتِ سوداء فلن تكوني أنت " و حالما قال ذلك أدرك أن كلامه حقيقة بالمطلق .
     لم تكن هنالك طريقة ممكنة للجدال حول حقيقة أنها لن تكون نفسها لو كانت سوداء . فقال مرة أخرى " لو كنتِ سوداء لن تكوني أنتِ " .
     " أعرف " قالت له " و لكن دعنا نفترض ذلك " .
     تنفس بعمق . لقد ربح الجدال لكنه ما زال يشعر أنه محشور في زاوية .
     فسألها " أفترض ماذا ؟ " .
     " أنني سوداء ، ولكن بقيت أنا نفسي ، و وقعنا في الحب ، هل ستتزوجني ؟ " . فكر في الأمر .
     " حسناً " قالت له، و اقتربَت منه، و أصبحت عيونها أكثر تألّقاً " هل ستتزوجني ؟ " .
     قال " أنا أفكر " .
     " لن تفعل . أنا أقول لك سوف تقول لا " .
     " دعينا لا نتعجل هذا " قال لها . و أضاف " هناك العديد من الأشياء لأخذها بالاعتبار . لا نريد أن نفعل شيئاً نندم عليه بقية حياتنا " .
     " لا تفكر أكثر . إما نعم أو لا " .
     " بما أنكِ تَرَينَها بهذا الشكل – " .
     " نعم أم لا ؟  " .
     " يا إلهي يا آن . حسناً . لا " .
     فقالت " شـكراً " و خرجت من المطبخ إلى غرفة المعيشة، وبعد لحظة سـمع صوت تقليب صفحات مجلة . و عرف أنها في الحقيقة غاضبة لدرجة أنها لم تكن تقرأ ، و لكن لَم تُقلِّب الصفحات بالطريقة التي يفعلها هو . كانت تقلب الصفحات على مهل ، كما لو كانت تدرس كل كلمة فيها .
     كانت بذلك تظهر عدم اكتراثها به ، و كان لذلك الأثر الذي عرف أنها تريد إظهاره . و آلمه ذلك . لم يكن أمامه أي خيار إلا إظهار عدم الاهتمام تجاهها . و بهدوءٍ و نشاط غسل بقية الأطباق ثم جففها  ووضعها بعيداً . 
مسح الطاولات والمدفأة ثم فرك الأرضية بقطعة القماش حيث سقطت نقطة الدم . وأثناء قيامه بذلك قرر أن بإمكانه أن يمسح كل الأرضية . وعندما انتهى بدا المطبخ وكأنه جديد ، بنفس الشكل الذي بدا عليه عندما دخلا المنزل لأول مرة ، قبل أن يسكناه .
     حمل صفيحة القمامة وخرج . كان الليل قد حل و استطاع رؤية عدة نجوم إلى الغرب ، لم تستطع أضواء المدينة أن تطمسها .
     و على طريق (إل كامينو) ، كانت حركة السير منتظمة و خفيفة ، هادئة كنهر .  شعر بالخجل لأنه أتاح لزوجته أن تجره إلى شجار . ففي غضون ثلاثين سنة أخرى أو أكثر سيكونان ميتين، بماذا ستنفع كل هذه الأمور حينها ؟ فكر في السنوات التي قضياها معاً و مدى تقاربهما ، و كيف عرفا بعضهما جيداً ، فاضيقَّت حنجرته و تنفس بصعوبة . بدأ وجهه و رقبته بالاضطراب . تدفّق الدفء إلى صدره . وقف هناك للحظة ، مستمتعاً بتلك الأحاسيس ، ثم التقط الصفيحة و خرج من البوابة الخلفية . و قام الكلبان المولدان القادمان من أسفل الشارع بسحب صفيحة القمامة مرة أخرى . أحدهما كان يتدحرج على ظهره و الأخرى كانت تضع شيئاً في فمها . هرّت ، ألقت به في الهواء ، قفزت و أمسكته ، هرّت مرة أخرى و هزت رأسها بسرعة من جانب إلى آخر . وعندما رأياه قادماً هرولا بعيداً بخطوات قصيرة ومتكلفة . في العادة يقوم برميهما بالحجارة؛ ولكنه تركهما يذهبان هذه المرة.
     كان البيت مظلماً عندما دخله . و كانت هي في الحمام . وقف في الخارج عند الباب و ناداها باسمها . سمع صوت قرقعة الزجاجات ،ولكنها لم تجبه .
     " يا آن . أنا آسف ، حقيقة " ثم قال " سأعوضك عن ذلك ، أعدك " .
     فسألته " كيف ؟ " .
     لم يكن يتوقع هذا . و لكن من نبرة في صوتها ، اتكأ على الباب و قال هامساً " سأتزوجكِ " . " سنرى " قالت له " اذهب إلى الفراش و سأخرج في غضون دقيقة " . خلع ملابسه و دخل تحت الأغطية . و أخيراً سمع صوت باب الحمام يُفتَح و يُغلق . " أطفئ الأضواء " قالت له من الممر .
     فاستند و سحب السلسلة التي على جانب المصباح . فأظلمت الغرفة . و قال " حسناً ". اضطجعَ هناك ، لكن شيئاً لم يحدث . " حسناً " قال مرة أخرى . ثم سمع حركة عبر الغرفة فجلس لكنه لم يرَ شيئاً . و لفَّ الصمت الغرفة . دقَّ قلبه بشدة ، بنفس الشدة التي دقَّ بها في الليلة الأولى لاجتماعهما معاً أول مرة ، و بنفس الشدة التي يدقّها عندما يصحو على صوت ضجّة و ينتظر ليسمعها مرة أخرى – صوت شخص يتحرك في المنزل . شخص غريب .





















توبايس وولف : 
ولد عام 1945 في مدينة بيرمنغهام في ولاية آلاباما و شب في ولاية واشنطن . تسرب من المدرسة و عمل كبحار متدرب ، ثم التحق بالقوات الأمريكية الخاصة عام 1964 و خدم مظلياً في فيتنام و كان برتبة ملازم أول ، عندما ترك الجيش عام 1968 . ثم حصل على درجات علمية من جامعة أكسفورد و ستانفورد . و هو يدرس الآن في سيراكيوز حيث يسكن مع زوجته و ولديه . و هذه القصة من مجموعة قصصية بعنوان " هناك في العالم " back in the world  و هو مصطلح استخدمه العسكريون في فيتنام للإشارة للعودة إلى الحياة المدنية . نشرت هذه القصة أول مرة عام 1985.


اقرأ أيضاً على حبيبتنا

أنشودة العرب، شعر: علي طه النوباني  

بنما دولة بعيدة... ومُشوِّقة جدا  

الأزمة الاقتصادية، ومصالح الطبقات  

قراءة في رواية دموع فينيس لعلي طه النوباني  

عَهْدُ فلسطين - عهد التميمي  

كذبة نيسان  

الشوكُ جميلٌ أيضا  

«مدينة الثقافة الأردنية».. مراجعة التجربة لتعزيز الإيجابيات وتلافي السلبيات  

المشنقة  

البيطرة  

قصة نظرة  

عملية صغرى  

سيجارة على الرصيف  

بالشوكة والسكين والقلم  

نهاية التاريخ؟ مقالة فرانسيس فوكوياما  

الدولة العربية الإسلامية / الدولة والدين/ بحث في التاريخ والمفاهيم  

شهامة فارس  

جذورالحَنَق الإسلامي برنارد لويس  

صِدام الجهل : مقالة إدوارد سعيد  

صدام الحضارات؟ صموئيل هنتنغتون 

الفضائيات والشعر  

كأسٌ آخرُ من بيروت 

عمّان في الرواية العربية في الأردن": جهد أكاديمي ثري يثير تساؤلات 

تشكّل الذوات المستلبة  

مشهد القصة بين الريف والمدينة  

وحدة الوجدان والضمير  

«المنجل والمذراة».. استبطان الداخل  

دور المثقف والخطاب العام  

جرش: حديث الجبال والكروم  

في شرفة المعنى 

المثاقفة والمنهج في النقد الأدبي لإبراهيم خليل دعوة للمراجعة وتصحيح المسيرة  

!!صديق صهيوني  

عنترُ ودائرةُ النحس  

فجر المدينة  

مقامة الأعراب في زمن الخراب  

دورة تشرين 

الغرفُ العليا  

الصيف الأصفر  

حب الحياة: جاك لندن 

قصة ساعة كيت تشوبن 

قل نعم، قصة : توبايس وولف 

معزوفة الورد والكستناء  

منظومة القيم في مسلسل "شيخ العرب همام"  

ملامح الرؤية بين الواقعية النقدية والتأمّل  

الرؤية الفكرية في مسلسل «التغريبة الفلسطينية»  

"أساليب الشعريّة المعاصرة" لصلاح فضل - مثاقفة معقولة  

كهرباء في جسد الغابة  

جامعو الدوائر الصفراء  

صَبيَّةٌ من جدارا اسمُها حوران  

 



             

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق