الخميس، 30 ديسمبر 2010

خَصْخَصَة


خَصْخَصَة
 علي طه النوباني

ـ أسرع يا ابن المجنونة لقد تأخَّرنا.
صـاحَ رجلٌ في الخمسين من عمره وهو يهمُّ بالمسير  ، ويُوضِّبُ كوفيَّته فوقَ صلعتهِ ، بينما كانَ الصبيُّ يَفْرُكُ عَيْنيهِ بشدَّة ، وَيُزيلُ القَذى المتجمِّع حولهما جرَّت الأمُّ الصبيَّ بشدَّة نحو المطبخ ، وقامَتْ بتَدْليكِ وَجْهه بالماء بيدها الكبيرة قائلةً " سَتَذْهَبُ مع أبيكَ إلى العاصمة فلا تُسبِّب له المتاعب " . هزَّ الطفلُ رأسَهُ وَنَظَرَ إلى أمِّهِ نظْرَةً بَلْهاءَ تَنُمُّ عَن عَدَم الفَهم .
كانَ الأبُ قَد أجَّلَ هذهِ المهَمَّة طَويلاً حَتّى أنَّه لمْ يَعُد يَجدُ حُجَّةً للتأجيل ، قال للصبيِّ : "اتبعني أيُّها الجحشُ الصغير " ، فَمَشى الصَّغيرُ وهو يَتَلَفَّتُ حَوْلَهُ بينما كانَ الأبُ يَشُدُّ عَلى سيجارة (الهيشي) ويكحُّ بشدَّة ثمَّ يبصقُ ذاتَ اليميِنِ وذاتَ الشمال .
انتَفَضَ الباصُ القديمُ واهتزَّ اهتزازاً شديداً كأنَّما هو جَمَلٌ يَنْهَضُ عن الأرضِ، ثمَّ انطَلَقَ إلى الأمام مُحْدِثاً جَلَبَةً وضَجيجاً ، وأخَذَ الركَّابُ يَتَجاذَبونَ أطرافَ الحديث بصوتٍ مرتفع بينما زَمْجَرَ الرجلُ ناظراً إلى الصبيِّ : " هذا ما أناله منك يا ابن الكلب وجـع الرأسِ فقط ، رأسُـكَ هذا الذي يُشبه رأسَ الضَّـبع ، وعيناكَ الَّلتانِ لا تَنْفَكّانِِ تُنْتِجانِ القَذى ورائِحتك النَّتِنة ، فأنتَ بكلِّ بساطة ورغمَ أنَّك قد تَجاوزتَ السابعة من عُمرك ؛ مازلتَ تبولُ وأنتَ نائم فَتُبلِّلُ فِراشَك وثيابك وتُرْسِلُ رَوائحَ أشدَّ نَتَناً وقَرَفاً من مزابل القرية ماذا أفعلُ بك أيُّها الحمار ، لقد ضَرَبتكَ حتَّى ازرقَّ جلدُكَ ؛ وما أفاد ذلك شيئاً ، وَعَرَضْتُكَ عَلى الوليِّ الصالح عبد المعين ولم تَنْفَع زُجاجتان من بَوْلِهِ الطاهر مَسَحْنا بهما رأسك وجسمك هذا ماذا أفعل ؟ ثَلاثةُ أيَّامٍ وأمُّكَ الكاهنةُ تفحُّ فوق رأسي مثل أفعى :" خُذْهُ إلى طبيب مختص ولا أدري عليها اللعنة من أين جاءت بهذه الكلمة "مختص" !
كانَ الرجلُ يَضْغَطُ بينَ الفينةِ والأخرى على أسفلِ بَطْنِه وقد لاحظ الصبيُّ ذلك ولكنَّه لم يجرؤ على سـؤال والدِه  عَـمّا إذا كان يُعاني مِن شيءٍ ما . حافَظَ الطفلَ على نظرتِهِ البَلهاء مُراقباً شاربي والدِهِ وهُما يَهتزّانِ مع حَرَكَةِ الشَّفتينِ بما يُشَكِّلُ إيقاعاً مُنْتَظَماً يُذكِّرُهُ بحَرَكَةِ الذُّبابِ الرَّشيقَةِ حَوْلَ قِطْعَةِ الحَلوى  ! هِهْ قطعة حلوى ؟ لقد مَضَتْ شُهورٌ طَويلةٌ وهوَ يَنْتَظِرُ الموسِمَ لِكَي يَحْظى بقطعة حلوى ، وعندما جاءَ الموسم انقبضَ وَجْهُ الأبِ وقالَ  إنَّ عَلينا أن نَنْتَظِرَ عاماً آخَرَ من التَقَشُّفِ والصَّبر ،وشَرَحَ لِجارنا أبو محمَّد آسِفاً كيفَ أنَّ ثَمَنَ المحصولِ لم يكفِ لِمَصاريفِ الزِّراعةِ الَّتي دَفَعَها طوالَ العام دَيْناً بدَيْن   ألقى الصَّبيُّ رأسَهُ إلى الوَراء تاركاً جَسَدَهُ يَتَلَذَّذُ باهتِزازاتِ الباص لأعلى ثمَّ أعلى بما يجعل القلبَ يُهَوِّمُ في فراغٍ بينما كانَ الوالدُ يُثَرثِرُ بين الفينـةِ والأخـرى بأحاديث كرَّرها مِراراً .
تَوَقَّفَ الباصُ في مُجَمَّع المدينة فَنَهَرَ الأبُ الطفلَ الَّذي غَلَبَ عَليه النُّعاسُ :" انهض يا حمار أهذا وقت النوم ؟ " . كانتْ أعصابُ الأبِ مُتَوتِّرةً إذْ أنَّهُ مُنْذُ أنْ تَحَرَّكَ الباص من القرية كانَ يَشْعر برغبةٍ مُتَزايدة في التَبَوُّل ، كانَتْ تُلِحُّ عليهِ هذِه الحاجَةُ طوالَ الطَّريق فَيَضْغَطُ عَلى أسفلِ بطنه صابراً ومُكابراً ، وعندما وقف الباص في المدينة قال في نفسه: " يا فرج الله "  ، أمْسَكَ بيدِ الصَّبيِّ وأخَذَ يَجُرُّهُ وَراءَهُ  كما لو كان شوالاً من التِّبن ، كانت مِشْيَةُ الأبِ مُضْطَربةً وَغَيْرَ مُنْتَظمة .
تَلَفَّتَ حَوْلَهُ وقدْ أخَذَتْ عُيونُه تَجْحَظُ مِنْ رأسِه آه   تلكَ هِي الحَمّاماتُ شَحَطَ الصَبيَّ وَراءَهُ مُسْرعاً وَذَرَعَ الشارعَ بخطواتٍ عَريضة ، ولكنَّ صَوْتَ كوابح إحدى السيارات وهي تقتربُ مِنهُ جَمَّدَهُ في مَكانه ، تَوَقَّفَ لِوَهْلَةٍ،وَلكنَّ حاجَتَهُ الملحَّة دَفَعَتْهُ نحوَ الحَمّامات بشدَّة
قالَ للصبيِّ :" انتظر هنا " .
ودونما أيِّ تفكيرٍ دخل من باب الحمامات وكان ما زال يُفكِّر : كيف لو ضَرَبَتْهُ السيَّارة شيءٌ ما أقبلَ عليهِ من داخلِ الحمامات وهو يُشوِّحُ وَيُلَوِّحُ مُهَدِّداً وصارخاً ! إنَّها عجوزٌ شمطاء ربَّما في السبعين من عمرها تَرْبُطُ إزاراً حولَ وسطها وتَصْرخ : هذِهِ حمّامات السيِّداتِ أيُّها البغل
تَجَمَّدَ الرجلُ في مَكانِه ثانيةً ، واستغرقَ بضعَ ثوانٍ في استيعابِ ما يَحْدُث ، وسرعانَ ما غطّى وَجْهَهُ بيديه واستدارَ خارجاً ، فَواجَهَ ضَجَّةً وَجَلَبَةً شَديدتين في الخارج ، كان سواقو  (السرفيس) قدْ استخرجوا بسرعةِ البرقِ وَبشَهامَةِ فُرْسانِ العُصور الوُسطى هَراواتِهم وعِصِيَّهُمْ مِنْ سَيَّاراتِهم وأقبلوا مُزَمْجرينَ وَمُهَدِّدين :
ـ ماذا تريدُ مِنْ حَـمّامات النسـاءِ أيُّها الماجن ؟
ـ أتَظُنُّ الأمور (سَبَهْلَلا) ؟
وهكذا تَمَسْمَرَ الرَّجُلُ في مَكانهِ وانعَقَدَ لِسانُهُ حيثُ اجتمعَ حولهُ عَدَدٌ كبيرٌ من طالِبي الأجْر والمغفرة أولئك الذين كانوا يشيحون بوجوههم عنهُ عندما كان يَبْحَثُ عن الحمامات .
ـ صَ صَ .. صدِّقوني لا أعرفُ أنَّهُ حمّامُ النِّساء
كادَ أنْ يَهْوي عَلَيْهِ أحدهم بهراوة ثقيلة ، ولكنَّ آخرَ هَدَّأ مِنْ حَرارةِ الشـهامة وتَلَـقَّى الهَراوَةَ بيدِه قائلاً : " ربَّما يكون هذا الرجل صادقاً فليَقْطَع تَذْكِرَةً وليَدْخُل إلى حمامِ الرجال ".
صاحَ أحَدُ الواقفين : ماذا ؟   تذكرة !!
صاح آخر : " ألم تسمعْ يا ولدي بالخَصْخَصَة ؟!
لم يَعُدْ هُنالِكَ أيُّ داعٍ للتذكرة أو حتّى لِدُخولِ الحَمّاماتِ ، لَقَدْ تَبَلَّلَ بنطالُ الرجل وانفَلَتَتْ كلُّ أدَواتِهِ في ضَبْطِ نَفْسِه ، وَعَلى الرغم من خوف الصبي الذي كان جالساً على الرَّصيف على أبيه وحُزنه من أجلِه إلا أنَّه كانَ يُغالبُ رَغبةً شديدةً في الضَّحك بل يَكادُ أنْ يَنْقَلِبَ على ظَهْرهِ من شدَّة الضحك .

                                      1996 
   
 

 

 

 

 

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق