أحلامُ الظلّ والنور
" عندما كان الشيطانُ في الخامِسَةِ مِنْ عُمْرِهِ
اعْتَدَلَ في سَريرِه رافِعاً رأسَهُ ، وطلبَ الكمان
ـ لأوَّل مرَّةٍ في حياتِه ـ حيثُ عَزَفَ عَلَيْه
كَأفْضَلِ عازفٍ محترف " .
الساعةُ الآن الرابعَةُ إلاّ خمسِ دقائق ، مَوْعِدُ صَديقي بعدَ خَمْسِ دقائق . . . سَكَبْتُ إبريقاً من الماءِ في الحـوضِ الصغير ؛ بينَما كنتُ أراقبُ الطَّريقَ . الجوريَّةُ بالأمسِ كانَ عَليها وردَتان حمراوان رائعتان ، أحَدُهُمْ قَطَفَ واحِدَةً منهُما ، آهِ لَوْ أعرِفُهُ. . . إذنْ لَقَطَعْتُ أنْفَهُ ،الياسـمينةُ منذُ عامٍ أرْويها وَلَمْ تُزْهِرْ ،شـارَفَ الرَّبيعُ عَلى الانتِهاءِ وَلَمْ تُزْهِرْ ،ومِئاتٌ منْ بُذورِ القُرُنْفُلِ زَرَعْتُها في الحوْضِ ، وَلَمْ تَنْبُتْ ، رَوَيْتُها بالماءِ كلَّ يوم، ولم تنبت …
الرابعةُ وعشر دقائق … لا بأس لو يَتَأخَّرُ نِصْفَ ساعة ، هذا هامشٌ معقول .
دَخَلْتُ إلى غرفتي … مَضَتْ شُهورٌ وَلَمْ أقرأ أيَّ شيءٍ ، في خَزانَتي عَدَدٌ لا بأسَ بِهِ من الكتب ، لم أقْرأها جَميعاً ، ولكنّي في شوقٍ لِقِراءَةِ مَجْموعَةٍ مِن القِصص القصيرة الَّتي قرأتُ كُلَّ ما لَديَّ منها ، وَوَعَدْتُ نَفْسي بشراء غيرها … وتتالت الشهور … قسط البنك إيجار البيت … فاتورة الماء … الكهرباء … إلخ … إلخ …
لستُ وَصَديقي نُخْلِفُ المَواعيدَ فَقَط ، قبلَ عاميِن وَقَفَ الرئيسُ الأمريكيُّ "كلينتون " أمامَ البرلمانِ على مِحوَر السينات : سَ … سَنَرْفَعُ مُسْتَوى حياةِ الفردِ في هذه المنطقة … سَنُعَوِّضُكُمْ عن سَنَواتِ الجوعِ والخوف … سَيَتَذوَّقُ الجَميعُ ثِمارَ السَّلام …
ما عَلينا …
وَقَعَ نَظَري عَلى كِتابِ الغَرائبِ المُلقى على الطاولة : " عندما كانَ الشيطانُ في الخامسـة من عُمْرِهِ اعتدلَ في سَريرهِ رافِعاً رَأسَهُ ، وَطَلَبَ الكمانَ ـ لأوَّل مرَّةٍ في حَياتِه ـ حيثُ عَزَفَ عَليهِ كَأفْضَلِ عازفٍ مُحْتَرف " .
تُرى كيف يَكونُ عَزْفُهُ عندما يَبْلُغُ المائةَ من عُمْرهِ … أو حتّى الألف..؟!!
نَهَضْتُ عن الكرسيِّ ، ضَغَطْتُ على زرِّ التلفاز… لم يَعْمَلْ … ضَرَبْتُهُ بيدي اليُمنى … باليسرى… ظَهَرَتْ الصورةُ باهتةً بالأبْيَـضِ والأسْوَد ، أخَذَ المذيعُ يتحدَّثُ عن غاراتٍ تَشُنُّها إسرائيلُ على لُبنان ، مشاهدُ حيَّةٌ مِن الغاراتِ ، نساءٌ يَصْرُخْنَ … أطفالٌ غارقونَ في الدِّماءِ ، رجالٌ يَبْكونَ … أشلاءٌ في الشَّوارعِ… عُيون … أظافر … أيدي … خصلات شَعر… … أحلام … حياة … ضربتُ التلفاز بيساري بشدَّة … اختفتْ صَلْعَةُ المذيع الباهتة …
رَجَعْتُ إلى كِتابِ الغَرائبِ :
" نيقولا باغيني … عازفٌ مشهور … قيلَ أنَّ أوتار كمانه كانتْ مَصنوعَةً من أمْعاءِ امرأةٍ قَتَلَها بِيَدَيْه ، وقدْ تَجَوَّلَ في أنحاء كثيرة من أوروبا ؛ يعزفُ الكمانَ فينشرُ الرعبَ في قلوبِ مستمعيه ، كانَ شَكْلُهُ غَريباً ؛ لَهُ وَجْهٌ أبيضُ كالطَّباشير ، وعيْنان حمراوانِ غائرتان … وشَعْرٌ مُنْسَدِلٌ عَلى كَتِفيه … وكانتْ ألحانُهُ شديدةَ التعقيد قلَّما استطاع المُحْتَرفونَ من العازفين أن يلعبوها ".
سَمِعْـتُ طرْقاً على الباب … الساعةُ الآنَ الخامسةُ إلاّ ربعاً … فركتُ عيني ونهضتُ … فتحتُ البابَ : إنَّها زوجَتي وابني الصَّغير ذو العام والنصف ، كَرْكَرَ الصغيرُ وأقْبَلَ مُتَهادِياً كَأنَّما يَتَدَحْرَجُ رافِعاً يَدَهُ إليَّ مُبْتَسِماً ، قبَّلتُهُ باشتياق … ضَرَبَني بيدِهِ الصغيرةِ عَلى خَدّي ، حاولْتُ أنْ أمْنَعَ نفْسي منْ تَذَكٌّر أطْفالِ لُبنان فانْحَرَفَتْ ذاكرتي إلى طفلٍ جاءَ مَعْ جَدَّتِهِ إلى مَكانِ عَمَلي قَبْلَ أيّام ، وَبِدونِ مُناسَـبَةٍ أشـارَت الجدَّةُ إلى الطـفلِ الَّذي رُبَّما كانَ في السادسة من عُمْره ، وقالـتْ : " استُشْهدَ أبوهُ في الحربِ وتَزَوَّجَتْ أمُّه … يا لَقَسْوَتِها !!! " … هكذا قالتْ …
اسْتَرْخَيْتُ عَلى الكُرسيِّ ثانيةً ، ألقَيْتُ رَأسي إلى الوَراء ، انْسَكَبَتْ نُقْطَةُ عَرَقٍ عَلى أنْفي سَمِعْتُ أزيزاً … إنَّها ذُبابَة ، وفي أقلَّ من ثانِيَةٍ كانتْ تُحَرِّكُ قَوائمَها برَشاقةٍ عَلى أنْفي… أخ خ خ خ . . .
ملعونٌ هذا الذُّباب … وحدَه يَعْرِفُ مَواعيدَهُ جيِّداً ولا يُخْلِفُ أبداً … يشمُّ رائحة الصيف … رائحة العرق … رائحة النَّتَن … يَتسَرَّبُ من الثُّقوبِ الصَّغيرةِ … من الشُّقوقِ الضيِّقةِ … ويأتي ، وغَيْرُهُ لا يأتي من أوْسَع الأبواب …
آ آ ه ه ه … أشعرُ بالملل والنُّعاس … ألقيتُ رأسي إلى الوراء …
السـاعةُ الآنَ الثامنـةُ مَسـاءً ، لَقَدْ غَفَوْتُ طَويلاً ، كُنْتُ احْلُمُ … عالَمٌ آخَر … نفسُ مُستَوى النور في كلِّ مكان ،أقرب ما يكونُ إلى ليلةٍ مُقْمِرَةٍ ، عَلى أنَّني أعْتَقِدُ أنَّهُ لَوْ أتيحَ لي أنْ أنْظُرَ إلى السَّـماءِ لَما رَأيْتُ قَـمَراً ولا نُجـوماً ، الشَّـوارعُ خـاليةٌ تَماماً … لا أذكرُ أنّي رَأيْتُ فيها سِوى ذلكَ الوجْه الملائكيّ الَّذي يَفيضُ حَناناً وحُبّاً … قوامٌ مُتَوسِّط الطولِ ، مُكْتَنِزٌ في غيرِ إفراط ، وشعرٌ مُسَرَّحٌ عَلى الطريقةِ الفرنسـية . عينانِ عميقتان وَوَجْهٌ أبيضُ فيهِ حُمْرَةٌ أو رُبَّما سُـمْرَة …
خاطَبَتْني بِصَوْتٍ مُخْمَليٍّ دافِئ :
" أما زلْتَ هُنا أيُّها المجنون … منذُ زمنٍ طويلٍ وأنا أنْتَظِرُك … نَذَرْتُ لَكَ مسحَةَ الحُزنِ الَّتي عَلى وجهي ، وَشُعْلَةَ الحُبِّ الَّتي في قلبي منذُ أنْ رَحَلْتُ إلى العالَمِ السفليّ … ولمْ تأتِ … يا لَكَ مِنْ صَبورٍ مُثابر ! … كمْ مرَّةٍ أغْناكَ مَنْظَرُ سُفْرَتِكَ البائسةِ عَنْ تَناوُلِ الطَّعام … وكمْ أخْلَفَتْكَ الحَياةُ المواعيد … جِئْتُ قَبْلَ قَليلٍ مِن العالمِ السفليّ ، كانَتْ يوريداس هانئةً في أحْضانِ حَبيبها … وكانَتْ قيثارَتُهُ تُرْسِلُ أجْمَلَ الألحان … إنّي أحِبُّكَ فاحمِل قيثارتك واتبَعْني … احمل قيثارتك واتبعني … احمل … ".
لا … ما زالَ لديَّ الكثيرُ لأَفْعَلَهُ … ما زال لديَّ الكَثيرُ لأَقولَهُ مِنْ أجْلِ الحَياة .. مِنْ أجْلِ كَرْكَرَةِ الأطْفال …
ألقيْتُ رأسي إلى الوَراء … سَقَطَتْ عَلى أنْفي نُقْطَةٌ مِن العَرَق … وفي أقلَّ من ثانية ؛ كانَتْ ذُبابة تُحَرِّكُ قَوائمَها عَلى أنْفي برَشاقة ، وَدونَ أيِّ حِساب …هَوَيْتُ بضربة ساحقةٍ عَلى أنْفي … أخ خ خ خ …
صَرَخَتْ زَوْجَتي مِن الغُرْفَةِ الأخْرى … ما بالُك ؟
ـ لا … لا شيء… مُجَرَّدُ ذُبابة …
6/5/1996
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق