الخميس، 30 ديسمبر 2010

جزيرة (البرنس) خالص


 


علي طه النوباني
عِنْدَما بَلَّغَهُ مُـديرُهُ بحَسْـمِ ثلاثةِ أيّامٍ من راتِبهِ ، ابتَسَمَ برُعونَةٍ ملحوظة ، ولمْ يَتَفَوَّه بكَلِمَةٍ واحِدة لمْ يَتَحَدَّث عن الحافلةِ الَّتي يَسْتَقِلُّها وهْيَ تَجوب المدينة كامِلةً قَبْلَ أنْ توصِلَهُ إلى مَوْقِعِ عَمَلِه ، ولمْ يَتَحَدَّث عَنْ صالَةِ الأفراح المجاورة للمنزل والتي تُؤرِّقُ مَضْجَعَهُ بـضَجيجها الَّذي يَسْـتَمِرُّ حَتّى آخِر الليل ، وبالتَّأكيدِ لمْ يَأتِ عَلى ذِكْرِ جَيْبِهِ الخاوي حتّى مِنْ أجْرَةِ الحافِلة .
" غَداً عِندما أذهَبُ إلى جَزيرَتي أتَخَلَّصُ مِنْ هذِهِ الفَوْضى العارمـة والمَظـالِـمِ الَّتي لا حَصْرَ لَها " .
وعِنْدَما اشتَكى عَلَيْهِ أحَدُ المواطنين مُدَّعِياً أنَّ (البرنس) قدْ شَتَمَ أباهُ وَعَشيرَتَهُ لَمْ يُبالغْ في الدِّفاعِ عَنْ نَفْسِه واكتَفى بكَلِمَةِ " كاذِب" .
" لَنْ يَكونَ في جَزيرَتي أمثالُ هذا الأفّاق ، سَـأقْفِزُ مِثْلَ (طرازان) من شَجَرَةٍ إلى شجرة وأعوي مثل ذِئْب ، سَأجْلِسُ عَلى رأسِ جَبَلٍ إنْ أرَدْتُ اسـتشرافَ الأفقِ البعيد وآوي إلى كَهْفٍ مُظْلِم إذا شَـعَرْتُ بالعَجْـز أمـام شَـفَقِ الغُروب وَضَـبابِ البحر " .
قالتْ : " مالَكَ وَلِلْحُرِّيَّةِ تُعرِّضُ نَفْسَكَ لِمَزيدٍ مِن القُيودِ مِنْ أجْلِها ! وأولئكَ الَّذينَ يَصْنَعونَ السَّلاسِلَ والأصفاد هُمْ ذاتُهم يُعَرِّفونَها لك، ويُحَدِّدونَ جُدْرانَ سِجْنِك ، ألا تَقْنَعُ بما قَسَمَ المليكُ وَتَكُفُّ عَنْ تَعْرِيَةِ الأشياءِ الَّتي دَفَعوا أعْمارَهُم مِنْ أجْلِ تَزْيينِها في عُيونِكَ وعُيونِ كُلِّ الناس ".
قالَ : " حَقّاً إنَّ المُعادَلَةَ غايةٌ في الصعوبةِ وتَحْتَوي عَلى عَدَدٍ كَبيرٍ مِن المتغيَّراتِ لكنَّ صَمْتَ القُبور لَنْ يَحُلَّها بأيِّ حالٍ مِن الأحوال ، وإنَّه لا بدَّ من الِحراكِ حتّى لَوْ كانَ طَريقاً إلى مَتاهَةٍ أكْبَر ، وَلا بُدَّ مِن الحُـلم كَي يُطْـفِئَ لَظى الشوق إلى الخَلاص " .
" في جَزيرَتي لَنْ أسمَحَ لِغَيْرِ النَّوارسِ بأنْ تُحَلِّقَ في الأجواء , وَمَعاً سَـنَشْـرَبُ نَسيمَ المساء ونَبْتَلِعُ ثِمارَ النشْـوَة ، سَأخْصِفُ عَلى عوْرَتي مِن وَرَقِ الشَّجر وأنْبَعُ مَعْ شُروق الشمس مِثْلَ زَنْبَقَةِ الحياة " .
الثلاثةُ : رَقَمٌ مشؤوم
الخَمْسَةُ : دائرية حَنونة
الاثنان : ما أجْمَلَها
لا بُدَّ أنْ أفوزَ هذه المرَّة وساعتَها لَنْ يَحْرِمَني أحَدٌ مِن حُلمي
استَخْرَجَ قِطْعَةً نَقْديَّةً مِنْ جَيْبِهِ وأعطاها لِبائعِ اليانصيب .
هاه هذه هي .. 54242
ـ " يا سَلام عَليك يا بيه دَه رَقَمْ مَيْخُرِّش الميَّه أنا مُتَأكِّد انك حَتْفوز بالجايزه الكُبْرى وحَناكُل الحَلاوَة سَوا " .
قالتْ : " ألا تَرى مَعي بأنَّك عَقَّدتَها كَثيراً الحِراكَ الحِراك عَنْ أيِّ حِراك تَتَحَدَّث إنَّ حراكَ أبيكَ قَدْ جَعَلَهُ يُطْلِقُ عَليك اسم (برنس) لِتَكون أميراً رومنسياً حالِماً ، أماّ حِراكُكَ أنتَ فَقَدْ جَعَلَ رفاقكَ  يُطْلِقونَ عَليك لَقَبَ (خالِص) لِمُجَرَّدِ احتِراقِكَ في ما كان وما يجب أن يكون، لِتَكُونَ بهذا أسطورَةً في الهَذَيانِ والحُلم ، فَتَوَقَّفْ يا (برنس) خالِص لعلَّ رَشْفَةً مِنْ قَهْوَةِ التجّار والسَّماسِرَةِ تُعيدُ إليكَ عَقْلَكَ المسلوبَ في بلادِ العَجائب ".
قالَ:" يَكْفيني أنَّ دَمي راضٍ عَنْ عُروقي، وَدِماغي راضٍ عَنْ جُمْجُمَتي ، وَيَدي راضِيَةٌ عنْ ذِراعي ، فأنا وإن لَمْ أرْفَعْ سِلاحاً في وَجْهِ الَجبابرَةِ لكِنّي لَمْ أمْضَغْ بلِساني حِكَمَهُم الحَقيرة ولا أيَّدْت بيَدي سَفالاتِهم المدمِّرة " .
ـ قُلْتُ لَكُمْ كَثيراً مِنْ غَيْرِ الممكنِ أنْ نَتَعامَلَ مَعاً ضِـمْنَ حُـدودِ لُغَـةٍ تَفْرضُها طَبَقَـةٌ أوْ طائفَةٌ أوْ فِئَةٌ ما لا بدَّ أنْ نُسَمّي الأشياء كَما هِيَ دونَ مُوارَبَة لكي نَفْهَمَ ما نَقول لكي نبني الأفكار بِشَكْلٍ عَمودِيٍّ يُؤَدّي إلى نَتائجَ واضِحة .
انفَجَر الرِّفاقُ بالضَّحك .
ـ فِعْلاً أنَّكَ خالص .
ـ لا تَغْلَطْ (البرنس) خالص .
ضَحِكَ (البرنس) مُبدِياً عَدَمَ اهتِمامِهِ وأخْفى وَراءَ ذلِكَ الضَّحكِ نَشيجاً عَميقاً .
ـ لا بأس كيف نُمارسُ انسانيَّتَنا إذنْ إذا كانَ واحِدُنا يَسْمَعُ الآخَرَ بِعَقْلِيَّة الصَيّاد الَّذي يَبْحَثُ عَنْ فُرْصَةٍ لِيَنْقَضَّ عَلى الفَريسة ؟ كيفَ نُعَرِّفُ السَّعادَةَ إذا كانَتْ تَتَرَبَّعُ فوقَ ألوفِ الجماجِم ؟
ـ سامَحَكَ اللهُ يا خالِص كَيْفَ تُحَدِّثُنا في الفَلْسَفة في جلسَةٍ حِزْبيَّةٍ عَلى الرُّغْمِ مِنْ مَعْرِفَتِك بأنَّنا لا نُتْقِنُ غَيْرَ السِّياسَة .
ـ يا رفاق ألا تَعْرفونَ بأنَّ السِّياسة دونَ فلسفة تَنْقَلِبُ إلى دَعارة ؟
قالتْ : " هكَذا تَرَكْتَ الأحزابَ الَّتي أهْرَقْتَ دَمَكَ فيها . أنظرْ جَيِّداً أينَ أنتَ الآنَ وأينَ هؤلاءِ الَّذينَ وَصَفْتَهُمْ بضيقِ الأفُقِ يوماً ما ".
" في جَزيرَتي سَتَكونُ الحَياةُ كُلاًّ مُتَكامِلاً ، لَنْ أسْمَحَ لأحَدٍ أنْ يَحْتَكِرَ الأشْياء وَلَنْ ".
قالتْ : " إنَّكَ لِتَطْبيقِ هذا سَتَحْتاجُ إلى ألوفِ العَسْكَر لِمُعاقَبَةِ المخالفين ، وَسَيَقومُ هؤلاءِ بدَوْرهمْ وَعَلى الرُّغْمِ مِنْ أنْفِك بإعادَةِ تَعْريفِ الأشياء، وَسَيَفْعَلونَ ما حَرَّمْتَهُ أنْتَ ، سَتَجِدُ نَفْسَكَ في النِّهايَةِ  تَدورُ  في نَفْـسِ الدائرة فماذا أنتَ فاعـِل ؟ " .
كانَ خالِص يَسيرُ في شارعٍ مُزْدَحِمٍ يَرْتَدي قَميصاً مُهْتَرئا وقد تَلاشى أحَدُ كُمَّيْه ، وَعَلى رَأسِهِ طاقيَّةٌ انْقَلَبَ لَوْنُها الأحْمَرُ بفِعْلِ الأيّام إلى بُرْتُقاليٍّ باهِت، كانَ يُشَوِّحُ وَيُلَوِّحُ بيَدَيْهِ مُردِّداً : حقّاً ماذا سَأفْعَلْ الحُرِّيَّةُ  العَسكَر جَزيرَتي الحزب
تَوَقَّـفَـتْ بجوارهِ سَـيّارَةٌ سـوداءُ فَخْمَة ، أطَلَّ عَليهِ مِنْ شُبّاكِها رَجُلٌ يَرْتَدي بَدْلَةً سَوداء :
ـ أنْتَ (البرنس) خالِص هلْ هذا معقول ؟
ـ نَعَم ؟
ـ هَلْ تَذْكُرُني ؟
ـ لا
ـ هلْ نَـسِـيْتَ أيّامَ كُنّا في الحزب معاً ؟
ـ هاه (يَتَفَرَّسُ وجْهَهُ جيِّداً ) نعم فأنتَ الَّذي كانَ يَعْرفُ السِّياسَةَ وَلا يَعْرفُ الفَلْسَفَة !
ـ نَعَمْ وَأنْتَ الَّذي انتَهى حُلمُكَ إلى جَزيرَةِ الشّارعِ الوَسَطية .
أقْبَلَ شَخْصٌ مِنْ بَعيدْ : أهلاً بمعالي الوزير! بيْنَما جَلَسَ خالِصٌ القُرْفُصاء عَلى حافَّةِ الَجَزيرَةِ الوَسَطيَّة .
                             2003

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق