علي طه النوباني
عِنْدَما بَلَّغَهُ مُـديرُهُ بحَسْـمِ ثلاثةِ أيّامٍ من راتِبهِ ، ابتَسَمَ برُعونَةٍ ملحوظة ، ولمْ يَتَفَوَّه بكَلِمَةٍ واحِدة … لمْ يَتَحَدَّث عن الحافلةِ الَّتي يَسْتَقِلُّها وهْيَ تَجوب المدينة كامِلةً قَبْلَ أنْ توصِلَهُ إلى مَوْقِعِ عَمَلِه ، ولمْ يَتَحَدَّث عَنْ صالَةِ الأفراح المجاورة للمنزل والتي تُؤرِّقُ مَضْجَعَهُ بـضَجيجها الَّذي يَسْـتَمِرُّ حَتّى آخِر الليل ، وبالتَّأكيدِ لمْ يَأتِ عَلى ذِكْرِ جَيْبِهِ الخاوي حتّى مِنْ أجْرَةِ الحافِلة .
" غَداً عِندما أذهَبُ إلى جَزيرَتي … أتَخَلَّصُ مِنْ هذِهِ الفَوْضى العارمـة والمَظـالِـمِ الَّتي لا حَصْرَ لَها " .
وعِنْدَما اشتَكى عَلَيْهِ أحَدُ المواطنين مُدَّعِياً أنَّ (البرنس) قدْ شَتَمَ أباهُ وَعَشيرَتَهُ لَمْ يُبالغْ في الدِّفاعِ عَنْ نَفْسِه واكتَفى بكَلِمَةِ " كاذِب" .
" لَنْ يَكونَ في جَزيرَتي أمثالُ هذا الأفّاق ، سَـأقْفِزُ مِثْلَ (طرازان) من شَجَرَةٍ إلى شجرة وأعوي مثل ذِئْب ، سَأجْلِسُ عَلى رأسِ جَبَلٍ إنْ أرَدْتُ اسـتشرافَ الأفقِ البعيد وآوي إلى كَهْفٍ مُظْلِم إذا شَـعَرْتُ بالعَجْـز أمـام شَـفَقِ الغُروب وَضَـبابِ البحر " .
قالتْ : " مالَكَ وَلِلْحُرِّيَّةِ تُعرِّضُ نَفْسَكَ لِمَزيدٍ مِن القُيودِ مِنْ أجْلِها ! وأولئكَ الَّذينَ يَصْنَعونَ السَّلاسِلَ والأصفاد هُمْ ذاتُهم يُعَرِّفونَها لك، ويُحَدِّدونَ جُدْرانَ سِجْنِك ، ألا تَقْنَعُ بما قَسَمَ المليكُ وَتَكُفُّ عَنْ تَعْرِيَةِ الأشياءِ الَّتي دَفَعوا أعْمارَهُم مِنْ أجْلِ تَزْيينِها في عُيونِكَ وعُيونِ كُلِّ الناس ".
قالَ : " حَقّاً إنَّ المُعادَلَةَ غايةٌ في الصعوبةِ وتَحْتَوي عَلى عَدَدٍ كَبيرٍ مِن المتغيَّراتِ لكنَّ صَمْتَ القُبور لَنْ يَحُلَّها بأيِّ حالٍ مِن الأحوال ، وإنَّه لا بدَّ من الِحراكِ حتّى لَوْ كانَ طَريقاً إلى مَتاهَةٍ أكْبَر ، وَلا بُدَّ مِن الحُـلم كَي يُطْـفِئَ لَظى الشوق إلى الخَلاص " .
" في جَزيرَتي لَنْ أسمَحَ لِغَيْرِ النَّوارسِ بأنْ تُحَلِّقَ في الأجواء , وَمَعاً سَـنَشْـرَبُ نَسيمَ المساء ونَبْتَلِعُ ثِمارَ النشْـوَة ، سَأخْصِفُ عَلى عوْرَتي مِن وَرَقِ الشَّجر وأنْبَعُ مَعْ شُروق الشمس مِثْلَ زَنْبَقَةِ الحياة " .
الثلاثةُ : رَقَمٌ مشؤوم
الخَمْسَةُ : دائرية حَنونة
الاثنان : ما أجْمَلَها
لا بُدَّ أنْ أفوزَ هذه المرَّة … وساعتَها لَنْ يَحْرِمَني أحَدٌ مِن حُلمي …
استَخْرَجَ قِطْعَةً نَقْديَّةً مِنْ جَيْبِهِ وأعطاها لِبائعِ اليانصيب .
هاه … هذه هي .. 54242
ـ " يا سَلام عَليك يا بيه دَه رَقَمْ مَيْخُرِّش الميَّه … أنا مُتَأكِّد انك حَتْفوز بالجايزه الكُبْرى … وحَناكُل الحَلاوَة سَوا " .
قالتْ : " ألا تَرى مَعي بأنَّك عَقَّدتَها كَثيراً … الحِراكَ الحِراك … عَنْ أيِّ حِراك تَتَحَدَّث … إنَّ حراكَ أبيكَ قَدْ جَعَلَهُ يُطْلِقُ عَليك اسم (برنس) لِتَكون أميراً رومنسياً حالِماً ، أماّ حِراكُكَ أنتَ فَقَدْ جَعَلَ رفاقكَ يُطْلِقونَ عَليك لَقَبَ (خالِص) لِمُجَرَّدِ احتِراقِكَ في ما كان وما يجب أن يكون، لِتَكُونَ بهذا أسطورَةً في الهَذَيانِ والحُلم ، فَتَوَقَّفْ يا (برنس) خالِص لعلَّ رَشْفَةً مِنْ قَهْوَةِ التجّار والسَّماسِرَةِ تُعيدُ إليكَ عَقْلَكَ المسلوبَ في بلادِ العَجائب ".
قالَ:" يَكْفيني أنَّ دَمي راضٍ عَنْ عُروقي، وَدِماغي راضٍ عَنْ جُمْجُمَتي ، وَيَدي راضِيَةٌ عنْ ذِراعي ، فأنا وإن لَمْ أرْفَعْ سِلاحاً في وَجْهِ الَجبابرَةِ لكِنّي لَمْ أمْضَغْ بلِساني حِكَمَهُم الحَقيرة ولا أيَّدْت بيَدي سَفالاتِهم المدمِّرة … " .
ـ قُلْتُ لَكُمْ كَثيراً مِنْ غَيْرِ الممكنِ أنْ نَتَعامَلَ مَعاً ضِـمْنَ حُـدودِ لُغَـةٍ تَفْرضُها طَبَقَـةٌ أوْ طائفَةٌ أوْ فِئَةٌ ما … لا بدَّ أنْ نُسَمّي الأشياء كَما هِيَ دونَ مُوارَبَة لكي نَفْهَمَ ما نَقول … لكي نبني الأفكار بِشَكْلٍ عَمودِيٍّ يُؤَدّي إلى نَتائجَ واضِحة .
انفَجَر الرِّفاقُ بالضَّحك .
ـ فِعْلاً أنَّكَ خالص .
ـ لا تَغْلَطْ … (البرنس) خالص .
ضَحِكَ (البرنس) مُبدِياً عَدَمَ اهتِمامِهِ وأخْفى وَراءَ ذلِكَ الضَّحكِ نَشيجاً عَميقاً .
ـ لا بأس … كيف نُمارسُ انسانيَّتَنا إذنْ … إذا كانَ واحِدُنا يَسْمَعُ الآخَرَ بِعَقْلِيَّة الصَيّاد الَّذي يَبْحَثُ عَنْ فُرْصَةٍ لِيَنْقَضَّ عَلى الفَريسة ؟ كيفَ نُعَرِّفُ السَّعادَةَ إذا كانَتْ تَتَرَبَّعُ فوقَ ألوفِ الجماجِم … ؟
ـ سامَحَكَ اللهُ يا خالِص كَيْفَ تُحَدِّثُنا في الفَلْسَفة في جلسَةٍ حِزْبيَّةٍ عَلى الرُّغْمِ مِنْ مَعْرِفَتِك بأنَّنا لا نُتْقِنُ غَيْرَ السِّياسَة .
ـ يا رفاق ألا تَعْرفونَ بأنَّ السِّياسة دونَ فلسفة تَنْقَلِبُ إلى دَعارة ؟
قالتْ : " هكَذا تَرَكْتَ الأحزابَ الَّتي أهْرَقْتَ دَمَكَ فيها . أنظرْ جَيِّداً أينَ أنتَ الآنَ وأينَ هؤلاءِ الَّذينَ وَصَفْتَهُمْ بضيقِ الأفُقِ يوماً ما … ".
" في جَزيرَتي سَتَكونُ الحَياةُ كُلاًّ مُتَكامِلاً ، لَنْ أسْمَحَ لأحَدٍ أنْ يَحْتَكِرَ الأشْياء … وَلَنْ … ".
قالتْ : " إنَّكَ لِتَطْبيقِ هذا سَتَحْتاجُ إلى ألوفِ العَسْكَر لِمُعاقَبَةِ المخالفين ، وَسَيَقومُ هؤلاءِ بدَوْرهمْ وَعَلى الرُّغْمِ مِنْ أنْفِك بإعادَةِ تَعْريفِ الأشياء، وَسَيَفْعَلونَ ما حَرَّمْتَهُ أنْتَ ، سَتَجِدُ نَفْسَكَ في النِّهايَةِ تَدورُ في نَفْـسِ الدائرة … فماذا أنتَ فاعـِل … ؟ " .
كانَ خالِص يَسيرُ في شارعٍ مُزْدَحِمٍ يَرْتَدي قَميصاً مُهْتَرئا وقد تَلاشى أحَدُ كُمَّيْه ، وَعَلى رَأسِهِ طاقيَّةٌ انْقَلَبَ لَوْنُها الأحْمَرُ بفِعْلِ الأيّام إلى بُرْتُقاليٍّ باهِت، كانَ يُشَوِّحُ وَيُلَوِّحُ بيَدَيْهِ مُردِّداً : حقّاً ماذا سَأفْعَلْ … الحُرِّيَّةُ… العَسكَر … جَزيرَتي … الحزب …
تَوَقَّـفَـتْ بجوارهِ سَـيّارَةٌ سـوداءُ فَخْمَة ، أطَلَّ عَليهِ مِنْ شُبّاكِها رَجُلٌ يَرْتَدي بَدْلَةً سَوداء :
ـ أنْتَ (البرنس) خالِص … هلْ هذا معقول ؟
ـ نَعَم ؟
ـ هَلْ تَذْكُرُني ؟
ـ لا
ـ هلْ نَـسِـيْتَ أيّامَ كُنّا في الحزب معاً ؟
ـ هاه …(يَتَفَرَّسُ وجْهَهُ جيِّداً ) نعم فأنتَ الَّذي كانَ يَعْرفُ السِّياسَةَ وَلا يَعْرفُ الفَلْسَفَة !
ـ نَعَمْ … وَأنْتَ الَّذي انتَهى حُلمُكَ إلى جَزيرَةِ الشّارعِ الوَسَطية .
أقْبَلَ شَخْصٌ مِنْ بَعيدْ : أهلاً بمعالي الوزير! بيْنَما جَلَسَ خالِصٌ القُرْفُصاء عَلى حافَّةِ الَجَزيرَةِ الوَسَطيَّة .
2003
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق