السبت، 1 يناير 2011

ملامح الرؤية بين الواقعية النقدية والتأمّل


ملامح الرؤية بين الواقعية النقدية والتأمّل
قراءة في ديوان "شارع آخر" لعلي النوباني


د. شفيق طه النوباني
لم يكف طوال مسيرته عن الحركة والفعل ولم تمنعه الظروف القاسية من خوض التجربة بمجالاتها المتنوعة، وحين كانت الحياة تقسو عليه كان يلوذ إلى الشعر كما كان يلوذ إليه حين يشع الفرح والأمل في عينيه . هكذا كان الشعر عند أخي علي مقترنا بالتجربة والحالة التي ينطلق منها في الكتابة, فبدت قصائده معبرة بصدق عن تجربته وتأملاته وبحثه القلق الذي لم يمنع تلمّس ملامح الرؤية في تجربته الشعرية.
في ديوانه الرابع "شارع آخر" الذي صدر هذا العام عن دار ورد يظهر قلق البحث في القصيدة التي يحمل الديوان عنوانـَها, إذ تعبر المقاطع التصويرية التي تعرضها القصيدة عن خيارات الشاعر في تأمله للواقع والحياة, فيبدو المقطع الأول معبراً عن نظرة الشاعر إلى طبقة اجتماعية تعيش في ملذاتها بمنأى عن أي معطيات أخرى لا تحقق وسائل راحتها, وبمقدار ما ينفر الشاعر من هذه الصورة يرفض صورة الصوفي الذي يحاول أن يصل إلى استقراره الروحي بمعزل عن مجريات الواقع, هذا الواقع الذي يصوره بتناقضاته البشعة من خلال مقطع تصويري لاحق يشوبه ملمح سوريالي يُغيّب الانسجام والتناغم عن المشهد:
كان الدخان يصاعد في غابة البكاء والضحك
وكنت جائعا
فانتزعت من حلقي صرة من الغصات والمراثي
رأيت بينها ربة الجمال والسعادة
كانت ساقها الوحيدة مثل مدخنة شاحبة فأغمضت عيني
ولذت بالفرار
إلى شارع آخر
وفي حين تجلت في هذا المقطع ملامح القبح التي ذوبت الجمال وألقت عليه ستارها واجه الشاعر في المقطع اللاحق محاولات تجميل القبيح:
رأيتهم معا
أحياء وموتى
كانوا يجمعون الحجارة
يسكبون الكلام على أشيائهم
فتبدو مضيئة
لكنها في أول الظلام
تخلع قناعها
ثم تغفو في النوافذ البليدة
تبدو محاولات عزل الواقع بوجهه السلبي عن الذات غير مقنعة للشاعر بأي شكل من الأشكال فلا التصوّف يمكن أن يصل به إلى الاستقرار ولا محاولات التجميل التي تتناسى الواقع وتغيبه, وبهذا فهو يختار الاستمرار في رحلة البحث في شارع آخر
بلا حيز ولاشجر
قماش فرّ من زيته.
ولو أن الشاعر توقـّف في تناوله للواقع عند هذه القصيدة "شارع آخر" لكانت رؤيته انطباعية, ذلك أن القصيدة تحمل أبعادا تأملية ذهنية دون أن تبتعد في النقاط تناقضات من صلب الواقع , وهذا ما تناوله في قصائد أخرى.
أول هذه التناقضات التي يتناولها الشاعر في واقعنا العربي تتمثل في أزمة التماس الحضاري مع الغرب, ففي قصيدة "الأرض حبيبتنا" يصور الشاعر دهشة الصحراء مما طرأ عليها في العصر الحديث:
الدهشة ماثلة
كعزيف الجن على أطلال نوافذنا
رابية000 رائعة القد
تسير بأطراف أناملها
نحو الصحراء
قمر000 فقد الزيتون
يؤلف ليلكنا البري
يشاركنا حصد الترهات
ونغفو في الرمل بعيداً
كنعامة
فأهل الصحراء يبدون في حالة دهشة أمام المنجز الحديث، غير أن هذه الدهشة لاتقودهم إلا إلى النوم, ويأخذ هذا التناقض الحضاري طابعا حادّا في قصيدة "العادم والكسالى" فالعادم الذي يمثل معطى من معطيات المدنيّة الحديثة يتلازم مع الكسالى الذين لايتقنون غير الاستهلاك في عالم قوامه الإنتاج.
العادم بطل في كوميديا الصحراء
لحن غناه الصمت وتقديس الأسماء.
ويؤدي التناقض الطبقي دورا بارزا في تكوين الرؤية الواقعية, إذ يأتي التعبير عن الطبقات المسحوقة غالبا من خلال وجوه الأطفال التي فقدت رونقها, ففي قصيدة الصفعة يسبر الشاعر مشاعر الطفلة وملامحها المفزوعة بعد أن هوت الأم على وجهها بالصفعة مبرّرة ذلك بالضيق والفقر، وفي قصيدة" الخروج من باب الدخول" تظهر صورة الأطفال المستوحشين في حي الصفيح بعد أن ظهرت صورة التاجر المأفون الذي شرب المعابد والأغاني والخطايا.
ولاتخفى في قصيدة " العادم والكسالى" ملامح التعريض بتجار الكلمات والوصوليّين باعتبارهؤلاء أداة من أدوات ترسيخ التناقض وإخفائه في آن واحد.
ليس على تجار الكلمات حرج
ليس على الأصنام حرج
ليس على الصحراء نخيل
ومرايا
وحساب قبل الموت
وميزان نوايا

وكثيرا ما تظهر هذه التناقضات بجلاء في اللغة التصويرية في قصائد الديوان, فالزهور الجميلة تحتال إلى مصنع للألم، والمهرج الذي يُفترض فيه أن يبعث السرور في قلوب الناس عيناه دامعتان، والفجر الذي كثيرا ما يشير إلى البداية يأتي مثل أعواد المشانق، ولا شك في أن هذا النوع من الصور يعمّق انسجام الرؤية في القصائد التي تناولت هموم الناس وتناقضات المجتمع، فالرؤية لا تبقى مرهونة بكلّية النص وإنما تسهم الصور الجزئية في تكوينها.   
  والناظر في القصائد التي تتناول الواقع من خلال تعميق الهوة في تناقضاته سيجد أنها على الرغم من ذلك تنظر إلى المستقبل بعين الأمل , فقصيدة" العادم والكسالى" تنتهي بإشارة إلى شهوة الحياة وبريق الأمل
أنذا أقص عليك ما عرفت من أمري
كنا فرادى
واستبقنا
كان الطريق أهلة في الفجر
جفلت غزالتنا اشتهاء
وتسمرت في هيكل الذعر
واستوطنت في الروح أغنية
في مرافئ بؤسنا تجري
حقا لقد ضاعت خطانا
لكن عمرا قد يضيء الآن في العمر
هذه النظرة الآملة تجعلنا نفسر التفات الشاعر إلى الجمال في حالات شعرية أخرى مغايرة لتلك الحالات التي أظهر من خلالها التناقضات الحضارية والاجتماعية, ففي قصيدة "صبيّة من جدارا اسمها حوران" تبدو حوران ببهائها وروعتها ومجدها.
أيتها السماء أمطري
حوران مسرح الجبال
عباءة الصحراء الزاهرة
أنشودتها الخالدة
شعرها سنابل
عشقها مشاعل
طبريا مرآتها الصغيرة المتلألئة
القريبة البعيدة
ويبدو جمال الأرض بحاجة إلى البطل المخلص على الأغلب, فحوران تنتظر التماع سيف خالد بن الوليد على مقربة من طبريا, والعروس التي ماتت في قصيدة "الزوبعة" وشيّعها سرب من عصافير الغابة كانت تنتظر أن يأتيها الفارس منتصراً:
وإلى متى؟
يعود الفارس الشجاع مخدوعاً
تنز من سيفه حكايات الخيبة والألم.
ولعل مما يلفت الانتباه في قصيدة " صبية من جدارا" أن استحضار الشخصيات التي تسهم في تحقيق مجد الأرض وجمالها لايقتصر على العربية منها أو الرومانية بل تلتقي كلّها في عملية مزج حضاري لايقف من الآخر موقف عداء عبثي , فالشاعر يطلب من أبي الطيب ان يستريح مع ميلاغروس شاعر الرومان في أرض حوران , لكن هذا بالطبع لا يعني تجاوز الجمال المأسور في طبريا " القريبة البعيدة" فهي مازالت تنتظر البطل المخلّص.
وإذا كان جمال الأرض يشوبه ذلك الحزن النابع من غياب البطل , فإن جمال المرأة يبقى بعيداً أمام تعثر المسالك وانقطاع الطرق:
لان عيونك حقلٌ
على ربوة
في قمر المستحيل
شربت الموانيء بحثاً
وجبت المسالك شوقاً
ولما أطل بهاؤك
ضاع الطريق
وضاع الدليل
هذه تجربة شعرية عايشتها عن قرب منذ بداياتها ومنذ طفولتي, لقد حافظ الشاعر علي النوباني على صدق تجربته وانسجام رؤيته دون أن يفقده ذلك القدرة على تطوير أدواته وأسلوبه عبر مسيرته الأدبية.

اقرأ أيضاً على حبيبتنا

أنشودة العرب، شعر: علي طه النوباني  

بنما دولة بعيدة... ومُشوِّقة جدا  

الأزمة الاقتصادية، ومصالح الطبقات  

قراءة في رواية دموع فينيس لعلي طه النوباني  

عَهْدُ فلسطين - عهد التميمي  

كذبة نيسان  

الشوكُ جميلٌ أيضا  

«مدينة الثقافة الأردنية».. مراجعة التجربة لتعزيز الإيجابيات وتلافي السلبيات  

المشنقة  

البيطرة  

قصة نظرة  

عملية صغرى  

سيجارة على الرصيف  

بالشوكة والسكين والقلم  

نهاية التاريخ؟ مقالة فرانسيس فوكوياما  

الدولة العربية الإسلامية / الدولة والدين/ بحث في التاريخ والمفاهيم  

شهامة فارس  

جذورالحَنَق الإسلامي برنارد لويس  

صِدام الجهل : مقالة إدوارد سعيد  

صدام الحضارات؟ صموئيل هنتنغتون 

الفضائيات والشعر  

كأسٌ آخرُ من بيروت 

عمّان في الرواية العربية في الأردن": جهد أكاديمي ثري يثير تساؤلات 

تشكّل الذوات المستلبة  

مشهد القصة بين الريف والمدينة  

وحدة الوجدان والضمير  

«المنجل والمذراة».. استبطان الداخل  

دور المثقف والخطاب العام  

جرش: حديث الجبال والكروم  

في شرفة المعنى 

المثاقفة والمنهج في النقد الأدبي لإبراهيم خليل دعوة للمراجعة وتصحيح المسيرة  

!!صديق صهيوني  

عنترُ ودائرةُ النحس  

فجر المدينة  

مقامة الأعراب في زمن الخراب  

دورة تشرين 

الغرفُ العليا  

الصيف الأصفر  

حب الحياة: جاك لندن 

قصة ساعة كيت تشوبن 

قل نعم، قصة : توبايس وولف 

معزوفة الورد والكستناء  

منظومة القيم في مسلسل "شيخ العرب همام"  

ملامح الرؤية بين الواقعية النقدية والتأمّل  

الرؤية الفكرية في مسلسل «التغريبة الفلسطينية»  

"أساليب الشعريّة المعاصرة" لصلاح فضل - مثاقفة معقولة  

كهرباء في جسد الغابة  

جامعو الدوائر الصفراء  

صَبيَّةٌ من جدارا اسمُها حوران  

 



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق