علي طه النوباني
ـ أعْتَقِدُ أنَّ زَميلي يَقْصِدُ …
ـ ليـسَ مِنْ حَقِّكَ أنْ تَتَحَـدَّثَ عمّا يَقْصِدُهُ زَميلُك .
وَجَّهَ الأستاذُ هذِهِ العِبارَةَ لي بحَنَقٍ وَعَصَبيَّة ، وسرعان ما اسْتَدارَتْ عُيونُ الطُلابِ جَميعاً باتِّجاهي … الكرةُ في مَلْعَبي الآنَ … مِنْ حَقِّي أنْ ارْفُضَ هذِهِ الدكتاتوريَّة الساحِقَة .
نَفْسُ هذا الأستاذ هو الذي ألقى خُطْبَةً عصماء في المحاضَرَةِ الأولى ؛ وشَدَّدَ عَلى أهميـَّةِ مُشـارَكَةِ الطالبِ وتَفاعُلِهِ في مادَّة المساق ؛ وأنَّ دَوْرَهُ كأستاذٍ جامعيٍّ يَتَلَخَّصُ في توجيهِ قِراءاتِ الطلاب وحِواراتِهِم المثمرة والمفيدة ، وخصوصاً أنَّ المادَّةَ الَّتي يُدَرِّسُها هي الأدب .
ليسَ هذا فقط …
لقدْ شارَك بالأمسِ في ندوةٍ مفتوحة تَحَدَّثَ فيها مَعْ عَدَدٍ مِن الأساتذة عن الفارق بين التعليم المدرسيّ والتعليم الجامعيّ ، قالَ أنَّ التعليم الجامعيّ يجب أن لا يَنْزَلِقَ إلى ما انزلق إليه التعليمُ المدرسيُّ من تَلقينٍ مُباشـر واستبدادٍ في الرأي ، يَجِبُ أنْ يُرَكِّزَ التعليم الجامعيّ على دعم شخصيّة الطالب ؛ واكتشاف قدراته بكلِّ الوسائل الممكنة ، يجب أن تَكونَ حِصَّةُ الطالبِ في المحاضرة أكبَر من حصَّة المدرِّس .
وهكذا زاوَدَ الأساتذة جميعاً في تلك الندوة على شِعاراتِهم الَّتي طَرَحوها … شَخصيَّة الطالب … الحوار البنّاء … الديمقراطيَّة … الخ … الخ …
وها هو الآنَ للمرَّةِ العاشرةِ يَخْلعُ نَظَّارَتَيْهِ الكثيفتين وَيَقْفِزُ منْ وراء طاولتهِ وكَأنَّما هو ذئبٌ يَهوي عَلى فريسةٍ سَهْلَة … وكلُّ هذا لماذا … لِمُجَرَّدِ أنَّني حاولتُ أن أدافِعَ عَنْ رأيِ زَميلي الَّذي رَفَضَهُ الأستاذُ بشدَّة وَجَزَمَ أنَّه خاطِئ …
ليسَتْ هذِهِ أوَّلُ مَرَّة يَسْخَرُ فيها من آرائنا ، لقد رَمَقَني بالأمسِ بنظرة عَميقةِ السُّخريةِ عِندما تَحَدَّثْتُ عن النزعةِ الوُجوديَّةِ في النصِّ الَّذي دَفَعَ بهِ إلينا ، وقالَ لي : اصْمِتْ يا هذا ، فماذا تَعْرفُ أنتَ عَنْ الوُجوديَّة …
ما أسخَفَني !!
كانَ يَجبُ أنْ أدْركَ المسافةَ بينَ ما يُقالُ في النَّدواتِ والمحاضراتِ العامةِ والصُّحفِ والمجلاّتِ وبيَن ما هو حادِثٌ فعلاً …
النظريَّةُ شيءٌ والواقعُ شيءٌ آخر …
الغَريبُ أنَّ أستاذي قد أبْدى إعجابَهُ بقُدْرَةِ نجيب محفوظ الفذَّة في بناء شخصيَّة السيِّد أحمد عبد الجوّاد ، وركَّز على فكرةِ الازدواجيَّةِ الَّتي رأى أنَّها صِـفَةٌ سـلبيةٌ طـاغيةٌ في الشخصيَّةِ العربية ؛ وربَّما تكونُ أهمَّ أسبابِ تخلُّفِ الأمَّةِ وانهيارها …
هِهْ … كيف لم يَنْظُرْ أستاذي في المرآة !!
ـ لماذا تَصْمِتُ … ألديكَ شيءٌ آخر ؟
صَحَوْتُ مِنْ ذُهولي على هذا السُّؤال الَّذي تفوحُ منهُ رائحةُ السخرية ، واستَدارَت العيونُ نَحْوي من جَديد ، كانَتْ أشداق أستاذي مُنْتَفِخَةً وكأنَّها تَنْطَوي عَلى أفٍّ ثقيلة ، تمنَّيتُ لو أستطيعُ أنْ أمزِّقهُ إرباً .. إرباً .. ولكن ..
ـ إنَّك تُفسد عَلَيَّ مَنْهَجي في التدريس ، اسْحَب المساقَ وأرحْني مِنْ مُشاكَساتِك …
هه … مَنهَجُك !! أيُّ منهجٍ هذا ؟ إنَّكَ تُلْقي عَلينا آراءَكَ وَكَأنَّها نَواميس الطَّبيعةِ الثابتة الَّتي لا تَبْديل لها ، وتَبْطِشُ بكُلِّ مَنْ يُعارضُ أو يُناقِش … وكيفَ أسحب المساق؟ إنَّ ذلك يَعْني أنْ أدفَعَ الرُّسومَ مرَّةً ثانيةً ، وأنْ يَتَأخَّر تَخَرُّجي مِن الجامعة … زوجَتي تَنْتَظِرُ أنْ أشتَري لها ثوباً جديداً ، وأن تُواظِبَ على زيارَةِ عِيادَة الطبيب ، وجِلدي يَنْتَظِر أن يَكْسوهُ قَميصٌ خالٍ من الخُدوش والجُروح ، ولكنْ هيهات فَأنا لا أنْفَكُّ أعَلِّلُ نَفْسي وأعِدُ زوجتي بينما يذهبُ راتبي الصغيرُ للرُّسومِ والدَّفاتر والكتب والذَّهاب والإياب .
ليْتَكَ يا أستاذي تَعْرفُ أنَّ الكثيرين من زملائي الذينَ كانَ واحِدُهُمْ يَنْقُرُ حُفْرَةً في ظَهري لِكي يَغُشَّ مِنّي في الامتحان يُحَضِّرون الآنَ لِنَيْلِِ دَرَجَةِ الدكتوراة ، لا لِشيء إلا لأنَّهم يملِكون ما يَدْفَعونَهُ لِهذِهِ الجامعات الَّتي لا تَفْتَحُ ذِراعَيْها إلاّ لمن يَدْفَعون …
وسرعان ما تَمَثَّلَتْ أمامَ عُيوني صورةُ صَديقي بشَعْرهِ الطويلِ المتَجَعِّد ومَلابسِهِ القَديمةِ وذقْنِهِ الَّذي غابَتْ عَنْهُ الحِلاقَةُ أسابيعَ طويلة … لقد جَرَّب كُلَّ أنواع العَمل لِيَقومَ بمصاريف الدِّراسة في الجامعة ؛ عَمِلَ عَتَّالاً وَجَرْسوناً وحتَّى عامِل تَنْظيفات …
بالأمسِ رَأيْتُهُ وَسَألْتُه إذا كانَ قَدْ سَجَّلَ للدِّراسةِ في الفصلِ القادم ، نَظَرَ إليَّ بعَيْنَيْهِ الغامِضَتَيْنِ الحزينتين ـ رَأيتُ فيهِما شيئاً يُشْبهُ الدُّموع ـ وقال : كلُّ ما جَمَعْتُهُ مِنْ عملِ ثلاثة شهور لا يَكْفي لدفعِ الرُّسوم ..
ـ هاه ما لَكَ تَصْمِت …
قالَ ذلكَ وهو يُعيدُ تَغْطِيَةَ عَيْنَيْهِ الساخرتين بذاتِ النظارتينِ … كِدْتُ أن أمزِّقَ قَميصي مِن شِـدَّةِ الغَيْظ وغَمْغَمْتُ بهدوء:
ـ لا … لا رَغْبَةَ لي في الَحديث .
ـ هذا أفْضَل …
استدارَتْ عَنّي العُيون … وتَغَلْغَلَ في جوفي إحساسُ بأنَّ القاعةَ فارغةٌ إلاّ من صورَةِ صَديقي وَهو يَجوبُ شَوارعَ المدينةِ ليلاً لِيَجْمَعَ سَلاّتِ المهملاتِ أمامَ بُيوتِ زُمَلائِهِ الَّذين يَنْعَمونَ بساعاتٍ هادئةٍ أمامَ كُتُبهمْ ودفاترهم.
1996
0 تعليقات