بقلم: علي طه النوباني
منذ بداية أزمة كورونا؛ درجت على ألسن
الناس عبارة تقول: " ما بعد كورونا ليس كما قبله"، وهي عبارة تستدعي
أسئلة كثيرة؛ إذ لطالما جاءت الأمراض والاوبئة عبر التاريخ، وذهبت إلى سبيلها،
وعادت الحياة؛ فلماذا في هذه المرة بالذات لا يُراد للحياة أن تعود، وكلُّ شيء لسان
حاله يقول إن هنالك من يريد أن يغير نظام العالم لصالحه.
ألا تشي هذه العبارة الكريهة بأنَّ ثمة
من يعجبه منظر الناس وهم مقيدون بالسلاسل، متباعدون، عديمو الفعل والأثر، منفعلون
غير فاعلين، وبأنه يريد لهذا الحال أن يدوم لكي يمرر كل ما يريد تحت حماية الوباء
وأحكام الطوارئ.
ألا يشي ذلك بأن ثمة من كان يعتبر
القوانين الدولية ومواثيق حقوق الإنسان عبئًا على مخططاته، وعائقا أمام مصالحه
الجشعة؟
ألا يشي كل ما رأينا من فساد وظلم في
هذا العالم بأنَّ هنالك طائفة من البشر يمتلكون من النذالة والخسة ما يؤهلهم لمؤامرة
بهذا المستوى من الانحطاط وقلة الوجدان والضمير؟
لقد جرت العادة لدى الكثيرين على
الاستهتار بقيمة حقوق الإنسان ومواثيقها التي شكلت القانون الدولي مستدلين على
موقفهم بكثرة الانتهاكات التي مورست والمواقف المزدوجة والسلبية أحيانا لمنظمات
حقوق الإنسان والتي تكون ظاهرة مثل الشمس في وسط النهار. ولا بدَّ هنا من الانتباه
والتأمل مليًا قبل السقوط في الشرك المنصوب للناس لكي يتخلوا عن هذه المرجعيات
التي تورط نخب العالم بالمصادقة عليها ثم ندموا أشدَّ الندم، وها هم اليوم
يستدرجوننا للتنازل عنها لنصبح عراة من القوة، وعراة من المرجعية في آن معًا، وبعد
أن كنا نشير إلى المادة كذا، والاتفاقية كذا، ونرفع يافطاتنا ونحتج ونحقق نصرا هنا
وإخفاقا هناك، نصبح بلا أي مرجعية نستند إليها عند الثورة أو النضال من أجل
التغيير.
كان عام 1971 هو أول عهد المرأة
السويسرية بالانتخاب على الرغم مما نعرفه عن تقدم سويسرا الآن في مجال حقوق
الإنسان. وفي الوقت الذي وقّعت فيه الولايات المتحدة
على الإعلان العالمي لحقوق الإنسان؛ بقيت بعض الولايات الأمريكية تطبق نظام التمييز
العنصري ضد السود والملونين إلى وقت متأخر. أما إعلان حقوق الطفل الذي صدر عام 1959 فقد وافقت عليه جميع الدول ما
عدا الولايات المتحدة والصومال.
وقد
احتفظت الدول الأوروبية بمستعمراتها في آسيا وإفريقيا وغيرهما متجاهلة بذلك كل
المواثيق الدولية وحق الشعوب في تقرير مصيرها، وتأخر توقيع الولايات المتحدة على اتفاقية
منع جريمة الإبادة الجماعية 40 عاما، كما
تأخر توقيعها على الإعلان العالمي حول الحريات السياسية والمدنية 26 عاما، وتأخر توقيعها على إعلان تحريم التفرقة
العنصرية 28 سنة. ولا ننسى الانتهاكات المرعبة لحقوق الإنسان
التي ارتكبت في فترة الحرب الباردة: تعذيب وقتل، ودعم لأنظمة مستبدة، واستعمال
أسلحة محرمة دوليا، ودعم لكيانات عنصرية استعمارية إحلالية مثل الكيان الصهيوني.
لم توقع دول العالم على الإعلان
العالمي لحقوق الإنسان وما انبثق عنه من معاهدات واتفاقيات رغبة منها بالالتزام
بحقوق الإنسان، وإنما تحت ضغط النتائج الكارثية للحرب العالمية الثانية، وتحت ضغط
شعوب أوروبا التي تعرضت للتفاعلات المعرفية والاجتماعية والسياسية والثقافية منذ
أوائل عصر النهضة مرورا بالثورة الفرنسية وشعاراتها التي شكلت منطلقا لفهم جديد
للمواطنة والعقد الاجتماعي وعلاقة الإنسان مع الدولة أو الكيان السياسي الذي يعيش
فيه وصولا إلى الحربين العالميتين بكل الويلات والمصائب التي جرتها على الإنسانية.
وهكذا
فإن المصادقة على المعاهدات الدولية لحقوق الإنسان قد جاءت في ظروف خاصة؛ وليس من
صحوة ضمير النخب السياسية التي تقود العالم؛ لأنها ببساطة - وكما نرى يوميًا -
غالبيتها العظمى بلا ضمير. هل نتنازل عن هذه المرجعية التي حققتها لنا الظروف والحتميات
التاريخية، وماذا سيحل بنا وبالأجيال القادمة إذا سمحنا لهم بالعودة إلى الصفر
وتخلينا عن المرجعيات التي نبني عليها خطابنا، وخاصة في هذه الظروف التي نعاني
فيها من أشد درجات الضعف والهشاشة.
الجانب
الآخر الذي ينبغي الانتباه إليه هو أنَّ هنالك خلطا بائنًا بين حقوق الإنسان
كمرجعية قانونية من جهة؛ ومنظمات حقوق الإنسان بممارساتها المشبوهة والغريبة من
جهة أخرى؛ لا بدّ أن نتذكر بأن القائمين على هذه المنظمات بشر ينحرفون عن الحق
أحيانا، ويزورون أحيانا، ويرتشون أحيانا، ويخطئون أحيانا أخرى، فإذا ما شكّ أحدنا
بالمحامي أو رآه وهو يرتشي أو يتآمر على القانون؛ فإنه حتما لا يطالب بإلغاء
القانون؛ لأن إلغاء المواثيق الدولية لحقوق الإنسان إنما هو عودة لشريعة الغاب،
وفقدان للمرجعية التي نبني عليها تمييزنا بين الحق والباطل وتنازل مخزٍ عن حقوق
الأجيال القادمة في العيش الكريم والحرية والحياة، بل هو صكٌّ مفتوح للانتهازيين
والسفلة لكي ينتهكوا الإنسانية كما يشاؤون.
وإنني
إذ أشاهد أعرق الديمقراطيات وهي تذعن لأحكام الطوارئ، والإجراءات الاستثنائية
لمكافحة كورونا، لأخشى أن تذعن أيضا لتغيير جذري يحقق لأشرار العالم التنصل من كلِّ
متعلقات حقوق الإنسان والاتفاقيات والعهود والقانون الدولي، وأرى أن الوقت قد حان
لأن نعلن جميعا نحن شعوب الأرض تمسكنا بحقوقنا الإنسانية الثابتة والمشروعة،
ووقوفنا في وجه المتآمرين والمؤامرات الدنيئة التي تحاك في الظلام، والإعلان عن
تأكيدنا من جديد على الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، وأن ما بعد كورونا هو العودة
إلى الحياة والحرية وليس إلى أحلام وخيالات سفلة الأرض وأوباشها.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق