بقلم: علي طه النوباني
يطلب راوي "قصة عن
الحب والظلام" للروائي الإسرائيلي عاموس عوز من القارئ أن لا يبحث عما بين
المؤلف والرواية بل عما بين القارئ والرواية، متجاهلا بذلك التطابق بين اسم المؤلف
وأسماء جميع أقاربه من جهة وأسماء شخصيات الرواية الرئيسية من جهة أخرى ناهيك عن
تطابق الأمكنة والكثير من الأحداث المعروفة للناس عن المؤلف مع ما يحدث في الرواية
ما يجعل هذه الرواية تشتبك مع السيرة الذاتية بشكل قوي على الرغم من التفاصيل
الكثيرة والمتشعبة التي لا يمكن التحقق منها، وفي رأيي – لا حاجة للتحقق منها إلا
إذا كان ذلك من قبيل دراسة حياة المؤلف، ولا أحسب الروائي عوز غافلا عن ذلك، فهو
يقصد كل كلمة ليقول للقارئ: صحيح أن هذه
هي سيرتي التي تحتوي على جوانب مخجلة من حياتي، ولكن كل واحد منكم لديه أشياء
مخجلة، وربما أكثر مما هو لدي.
تقع الرواية في سبعمائة
وخمس وستين صفحة من القطع المتوسط حيث يضيء الراوي على أبطاله بشكل متقطع منذ أن
عاشوا في أماكن مختلفة في أوروبا( بولندا، أوكرانيا، روسيا، ...) وحتى وصولهم
واستقرارهم في فلسطين.
والدة الراوي فانيا ولدت
ونشأت في روفنو وهي مدينة كانت تتبع بولندا قبل الحرب العالمية، وأصبحت جزءا من
أوكرانيا بعد الحرب وكان أغلبية سكانها من اليهود، وقد عاشت فانيا في بيئة رائعة الجمال.
وفي مشهد مفصلي من
الرواية يقول الراوي عاموس:" مرة أخرى جلسنا نحن الثلاثة في الساعة السابعة
صباحا على كراسي القش الصغيرة حول طاولة المطبخ المكسوة بالمشمع المزين بالورود،
وحكت لنا أمي عن تاجر فرو غني كان يعيش في مدينتها، في روفنو، يهودي ماكر بارع حتى
من باريس وروما كانت تاتيه الرسل لشراء نوع نادر من الفرو كان يعرف باسم الثعلب
الفضي ، فرو كان يلمع أمام ناظريك كلون الصقيع في ليلة مقمرة، وقد حدث ذات يوم
فجأة أن تحول هذا التاجر إلى نباتي صارم وحازم. وضع هذا التاجر في يد عمه (والد
زوجته) جميع تجارة الفرو المتشعبة. بعد فترة زمنية معينة أقام له شقة صغيرة في
إحدى الغابات وهجر بيته وسكن في السقيفة لأنه حزن حزنا شديداً على كل آلاف الثعالب
التي قتلها...".
ثم يصدمك الراوي بموقف
والده من قصة تاجر الفرو التي سردتها زوجته فانيا: "والدي الذي لم يحب هذا
النوع من القصص كان يقطب أسارير وجهه ويسأل، عفوا ماذا يمكن أن تكون هذه القصة؟
قصة رمزية؟ أم معتقدات خرافية؟ أم مجرد عبث أطفال؟ ولكن لأنه كان مسروراً جدا
بالتحسن الذي طرأ على حالة أمي حرك يده بحركة استخفاف قائلا: ليكن.".
ما الذي يزعج والده في
القصص التي ترويها فانيا؟ هل هو حنينها إلى أوروبا التي نشأت وعاشت فيها أجمل
أيامها؟ وبالتالي عدم شعورها بالرضا عن هذا الوطن الجديد: فلسطين/ أرض الميعاد،
وخاصة أن زوج فانيا صهيوني يميني قومي خلافا لزوجته الرومانسية التي يشع من حديثها
الحنين إلى ماضيها في روفنو وتسكنها أحزان عميقة على أهل مدينتها روفنو الذين
قتلوا عن بكرة أبيهم في موجة اللاسامية التي اجتاحت أوروبا.
وما الذي يزعج والد
عاموس في قصة تاجر فرو الثعالب بالذات؟ هل هو رمزيتها كما يقول: ربما نظرت فانيا
إلى مقتل أعداد كبيرة من اليهود على يد الأوروبيين وخشي هو أنها تلمح إلى ما يحدث
للفلسطينيين على يد اليهود، أو أنّ القصة ذكرته بما يحدث للفلسطينيين ولم يحتمل أن
يفكر في ذلك، ولم يحتمل أن يتعاطف معهم لوهلة! أم أنه ذهب إلى أبعد من ذلك فخشي
على اليهود من أن يصابوا بعقدة الذنب التي أصابت تاجر الفرو بعد أن قتل عدداً
كبيرا من الثعالب/ واليهود الذين قتلوا عددا كبيرا من الفلسطينيين!؟ أم أنه يخشى
أن تتعاطف الشعوب مع الكارثة التي ألمت بالفلسطينيين كما تعاطفوا مع اليهود.
يقول
الراوي: " في
حياة الأفراد، وكذلك في حياة الشعوب، الصراعات الأكثر فظاعة في حالات كثيرة
هي تلك
التي تدور بين اثنين مضطهدين... ربما هذا هو الحال بين العربي واليهودي منذ
مئة
سنة: أوروبا التي نكلت بالعرب وأذلتهم واضطهدتهم بواسطة الاحتلال
والاستعمار
والاستغلال والاضطهاد – هي نفسها التي لاحقت اليهود أيضا وطاردتهم، وفي
النهاية سمحت للألمان أو ساعدتهم على اجتثاثهم من جميع أرجاء القارة
وقتلهم كلهم تقريبا. لكن العرب ينظرون إلينا فلا يرون أمامهم مجموعة من
الناجين شبه الهستيريين بل ممثلين متعجرفين جدد لأوروبا الاستعمارية
المتطورة
والاستغلالية التي عادت بطرق الخديعة والاحتيال إلى الشرق – وهذه المرة
بلباس
تنكري صهيوني – لكي تعاود الاحتلال والاستغلال والاضطهاد – بينما نحن، من
جهتنا،
ننظر إليهم فلا نرى أمامنا ضحايا مثلنا، إخوة لنا في الكارثة، بل قوزاقيين
ينفذون
المجازر ولا ساميين متعطشين للدماء نازيين متنكرين: وكأن مطاردينا
الأوروبيين
عادوا إلى الظهور هنا في أرض إسرائيل، التفوا بالكوفيات وأطلقوا شواربهم
ولكنهم هم
هم قتلتنا القدامى، الذين جل غايتهم ذبح اليهود لمجرد المتعة
والتسلية".ص500
فالراوي إذن يستنكر على
اليهود أن ينظروا للفلسطينيين على أنهم لا ساميين متعطشين للدماء ويقر بأن
الفلسطينيين ضحايا وإخوة لليهود في الكارثة، ويستنكر على العرب أن ينظروا لليهود
على أنهم ممثلين متعجرفين جدد لأوروبا الاستعمارية متنكرين بلباس صهيوني لمعاودة
الاحتلال والاستغلال.
ولكن الراوي أيضا يعتبر
أن الهولوكوست حقيقة مفروغ منها عندما يقول عن أوروبا: "سمحت للألمان أو
ساعدتهم على اجتثاثهم من جميع أرجاء القارة وقتلهم كلهم تقريبا" متجاهلا بذلك مئات الأبحاث التي تشكك بحدوث
الهولوكوست بالشكل الذي تصر عليه الحركة الصهيونية، ومن أهم تلك الدراسات كتاب
روجيه جارودي " محاكمة الصهيونية الإسرائيلية"، والذي يفند فيه المزاعم
الصهيونية بطريقة علمية وبموضوعية عالية، مؤكداً أن الحركة الصهيونية قد بالغت
كثيراً فيما يتعلق بعدد اليهود الذين قتلوا، وابتزت العالم بحجة ما اختلقته من
أكاذيب.
أولم يقرأ عوز كتاب
جارودي الذي أضطر لطباعته على نفقته الخاصة بسبب الحظر الذي فرضته عليه المؤسسات
الصهيونية؟
أولم يقرأ عوز عن العديد
من الباحثين الذين تعرضوا للسجن والإيذاء بسبب تشكيكهم بالهولوكوست المزعوم حتى لو
كان ذلك ضمن بحث علمي جاد.
يغلف عوز عمله بموضوعية
انتقائية، فهو يغطي على انحيازه للصهيونية ودعاواها بقصص عاطفية حزينة تخلق حياداً
إنسانياً خطراً يخلط الحق بالباطل، ويضيع الحقائق، وربما لوهلة يجعل العربي يتعاطف
معه ما لم يتأمل فيما بين السطور من مواربات ذكية، وبهلوانية في القفز بين الأفكار
والمواضيع.
وها هو بطل الرواية يسأل
رفيقه إفرايم في كيبوتس حولدا فيم إذا سبق له وأن قتل واحدا من هؤلاء القتلة –
يقصد الثوار الفلسطينيين؛ فيجيبه إفرايم مستنكراً: " قتلة؟ لكن ما الذي
تتوقعه منهم؟ من وجهة نظرهم، نحن أغراب هبطنا من الفضاء الخارجي، وغزونا أرضهم، ورويدا
رويدا، سيطرنا على أجزاء منها وفي الوقت الذي كنا نعدهم بأننا جئنا فعلا لنغمرهم
بالخيرات، ولنشفيهم من السعفة ومن الرمد الحُبيبي، وأن نحررهم من الفقر والجهل ومن
اضطهاد الإقطاعيين- كنا نضم إلينا بمكر واحتيال المزيد من أراضيهم. لذلك، ماذا
تظن؟ بأنهم سيقدمون إلينا الشكر على إحساسنا ومعروفنا؟ بأن يخرجوا لاستقبالنا
بالطبول والصنوج؟ بأن يقدموا لنا مفاتيح كل البلاد فقط لأن أجدادنا عاشوا هنا ذات
يوم؟ ما العجب بأنهم حملوا ضدنا السلاح؟والآن وبعد أن هزمناهم هزيمة نكراء ومئات
الآلاف منهم يعيشون منذ ذلك الوقت في مخيمات اللاجئين – ماذا، ربما تتوقع بأنهم
يفرحون لفرحنا وبأنهم سيتمنون لنا كل الخير؟".ص624
ثم يسأل عاموس إفرايم:
إذا كان الأمر كذلك فلماذا يحمل السلاح؟ لماذا لا تغادر البلاد؟ فيجيب إفرايم: إنه
مضطر لذلك لأنه لا أحد يريد اليهود في بلاده، ولأنه ليس من مكان آخر يذهب إليه،
وهو إنما يستنكر وصف العرب بالقتلة لأنهم لا يشبهون ستالين أو النازيين.
وهكذا يتوصلان إلى نتيجة،
وعلى حد قول أفرايم:" الأمر بسيط جداً: إذا لم تكن
هنا، أين هو وطن الشعب اليهودي؟ تحت ماء البحر؟ على القمر؟ وهل الشعب اليهودي وحده
من بين كل شعوب العالم، هو الوحيد الذي لا يستحق وطناً صغيرا؟".
يقوم الراوي هنا بتسريب
فكرة مفادها أن لا أحد هنا يريد اليهود، ولذلك هم يحملون السلاح. ويأتي بهذه
الفكرة ليبرر الاستيلاء على أراضي الفلسطينيين بعد طردهم وسرقة ممتلكاتهم. ومن
الواضح أنه يبني الفكرة على مغالطة مقصودة للتأثير على القراء ممن لا يعرفون أنِّ
اليهود عاشوا في فلسطين مع العرب لفترة طويلة دون أن يرفضهم أحد إلى أن بزغت فكرة
الدولة الصهيونية بما فيها من عنصرية ورفض للعرب، دولة دينية في عصر الدولة
الحديثة التي تساوي بين كل مواطنيها بغض الطرف عن لونهم أو دينهم أو عرقهم. ثم
يتغافل عما حدث من تهجير قسري للفلسطينيين من مدنهم وقراهم وإحلال للمهاجرين اليهود
الذين استدعتهم الحركة الصهيونية من جميع أصقاع الأرض.
وبعد ذلك يطرح سؤالاً
غريباً: "إذا لم تكن هنا، أين هو وطن الشعب اليهودي؟ تحت ماء البحر؟ على
القمر؟ وهل الشعب اليهودي وحده من بين كل شعوب العالم، هو الوحيد الذي لا يستحق
وطناً صغيرا؟". ولكن عوز هنا يتعمد الوقوع في مغالطتين كبيرتين، فلو فرضنا أن
اليهود شعب بلا وطن، فما هو ذنب الشعب الفلسطيني دون شعوب الأرض لكي يقدم وطنه
ليصير وطنا لليهود ويتشرد في أصقاع الأرض؟ والمغالطة الثانية أن اليهودية ديانة
وليست قومية، وكلّ يهودي جاء إلى فلسطين تَخلّى عن جنسية دولة ما ليحصل على جنسية
الدولة العنصرية الغاصبة، ويسكن في بيت عائلة فلسطينية تم تهجيرها لتسكن في خيمة.
وأكثر ما استوقفني هنا
قول الراوي /عاموس:" لكن من أقوالك يفهم بأننا نحن أيضا مغتصبو بلاد ليست
لنا؟ ألم نعش هنا قبل ألفي سنة؟ ألم نطرد من هنا بالقوة؟".
الحقيقة أنني توقفت
طويلا عند عبارة " ألم نُطرد من هنا بالقوة؟" واضطررت لقراءة العديد من
الكتب والمراجع، فوجدت أن اليهود كانوا إذا ما اضطهدوا في منطقة من عالمنا الإسلامي؛
هربوا إلى أخرى في عالمنا الإسلامي أيضاً، كما حدث عندما هربوا من الأندلس إلى
المغرب العربي، ثم مصر، حيث بلغوا مواقع حساسة في الدولة أيام صلاح الدين وطبيبه ابن
ميمون، حيث دعاهم صلاح الدين للإقامة في فلسطين مع العرب، وأقام مَن أقام هناك
مئات السنين دون أن يعتدي عليه أحد، ودون أن يُخرِج أحداً من بيته، أو يُخرجَهُ
أحدٌ من بيته.
وفي نهاية المطاف، فإن
عموس عوز روائي يسحر القارئ بجمال سرده، وقدرته الفائقة على جذب القارئ للتوليفة الممتعة
من الحكايات التي تحيط بشخوصه وأماكنه. هذا على صعيد الأدب، أما على صعيد السياسة
والتاريخ، فإنَّ روعة أدبه أشبه بنعومة جلد الأفعى السامة التي تخبئ الموت الزؤام
في أنيابها الحادة، فهو يتسلل من المغالطات التاريخية ليقنع القارئ غير العارف بالمشروع
الصهيوني الإجرامي.
ولا بد هنا من الإشارة
إلى أنَّ رواياته ومنها هذه الرواية قد ترجمت إلى الكثير من اللغات مما يشكل
تشويها للرأي العام في العالم، وجزءاً من الدعاية الصهيونية التي لا تلتمس الحقَّ
ولا العدالة. وينبغي أن أذكر أيضاً بأن مثل هذا العمل الروائي يثير سؤالاً مهماً حول
غاية الأدب: هل دور الأدب أن يُـسـرِّب الأكاذيب على الغافلين الذين لا يعرفون
الحقائق؟ وهل دور الأدب أن يغطي السفالات بالجمال، والأكاذيب بقصص الحب الجميلة؟
أسئلة أتركها لكم؟ لعلها
تفتح باباً للنقاش والحوار، ولعلَّ ترجماتٍ تفضحُ منهجَ الكيان الصهيوني في التزوير
والكذب على الشعوب تظهر في مقبل الأيام.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق