بقلم: علي طه النوباني
من يعرفني، يَعرفُ رباطةَ جأشي، وَيعرفُ أَنّي لم أسمح
لتافهٍ هُنا أو هُناك أن يوقف مَسيرتي وكِفاحي في الحياة أو أن يثبط عزيمتي. وقد
لاحظت على نفسي أَني لم أكتب الكثير عن الإعاقة على الرغم من معاناتي الكبيرة في
الحياة بسببها.
لماذا لم أكتب عن الإعاقة؟
قرأت يوما ما أَنَّــهُ إذا سقطت شجرة على شخص ما فانكسر
ظهره، فإن ذلك الحدث لا يعتبر مأساة عامة، وإنما هو مأساة تخص ذلك الشخص وحده.
وربما كان ذلك فهما إغريقيا قديما للمأساة أو التراجيديا بمفهومها الأدبي النقدي؛
لكنه بصراحة أثر بي كثيراً.
أما اليوم وقد رأيت بأم عيني الحضارات المتقدمة كيف
أدمجت الأشخاص ذوي الإعاقة في المجتمع بكل مرافقه، وأزالوا الحواجز التي تمنعهم من
المشاركة في فعاليات الحياة؛ فعاش الكثيرون منهم حياة طبيعية إلى حد بعيد؛ فإن
شريط الذكريات المرة يمر أمام عيني كما تمر مشاهد الأشخاص ذوي الإعاقة الذين يُظلمون
يوميا في مجتمعاتنا التي تزاود على العالم بالحديث عن الإنسانية والخير.
تجولت على العديد من الصفحات على مواقع التواصل
الاجتماعي، فلاحظت أنَّ آلاف المبادرات الخجولة انطفأت بسبب عدم تفاعل المجتمع
وعدم اهتمامه بقضايا الأشخاص ذوي الإعاقة. وليس أَدلَّ على ذلك من أن أضع منشورا
عن حقوق الأشخاص ذوي الإعاقة؛ فيعلمني الموقع بأن ألف شخص قد رأوه لكنه لم يحصل
إلا على إعجاب واحد!
تذكرت مساق حقوق الإنسان الذي سجلت لدراسته أيام كنت
طالبا في الجامعة في أوائل التسعينات من القرن الماضي. كان مكان القاعة في الطابق
الرابع في مبنى الاقتصاد، ولم يكن في المبنى مصعد؛ فطلبت من الدكتور الذي يدرس
حقوق الإنسان أن ينقل المحاضرات إلى الطابق الأول، فنقل المحاضرة الأولى ثم نظر
نحوي في منتصف المحاضرة قائلا: " أنا ما بعرف أحكي في الطابق الأول، رح نرجع
على الطابق الرابع وعليك أن تدبر أمرك!".
فصل دراسي كامل وأنا أصعد الأدراج على عكازتي
المتهالكتين حتى الطابق الرابع لأن مدرس "حقوق الإنسان" لا يرتاح في
الطابق الأول. وعلى الرغم من أن قاعات الطابق الأول كانت فارغة!
كان هذا أول احتكاك منهجي بيني وبين حقوق الإنسان على
طريقة خريجي فرنسا في الحقوق!
أما أستاذ النثر الحديث فقد كان أكثر لياقة عندما ترك
مليون قصة قصيرة في الأدب العربي واختار قصة بعنوان" الصبي الأعرج"
ليطرحها في المحاضرة، وعلى الرغم من أني لم أُبدِ أي احتجاج على اختياره، وبرهنت
ذلك بمشاركتي في الحوار الذي أداره حولها، إلا أن الأستاذ نظر نحوي في منتصف
المحاضرة قائلا: أعتذر للأخ "علي" عن هذا الاختيار، وكأنه اختار هذه
القصة عمدا ليصل معي إلى هذه النقطة!
قلت له: لا عليك، لا داعي للاعتذار.
من اليوم، لن أعير التفاتا لذلك الجانب من الفلسفة
الإغريقية الذي يعزل ويهمل مآسي الناس واحتياجاتهم، ولن أترك فرصة لتذكير عديمي
الضمير وذوي الاحتياجات البارانووية الحادة الذين لا يعرفون أن يتحدثوا عن حقوق
الإنسان إلا في الطابق الرابع بمسؤولية الجميع تجاه الأشخاص ذوي الإعاقة، فهنالك
الكثير الكثير منهم يعيشون ظروفا صعبة جدا، وينتظرون تنفيذ قانون حقوق الأشخاص ذوي
الإعاقة رقم 20 لسنة 2017، والذي لن تتحقق رؤيته دون وعي المجتمع واهتمامه الذي يعبر
-إن تحقق- عن درجة عالية من التحضر.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق