د. شفيق طه النوباني
على الرغم من رسوخ التجربة الصوفية في التراث العربي
الإسلامي والتراث الإنساني تبقى تجربة فريدة يصعب تمثيلها بما يؤدي إلى إيصالها
إلى شرائح اجتماعية أكثر اتساعا، فهي تجربة باطنية كثيرا ما يبدو التوغل في فهمها
صعب المنال دون خوضها والارتقاء في مقامتها بصورة فعلية. ولعل ذلك ما يجعل من مهمة
إيصال واحدة من أهم التجارب الصوفية في التاريخ العربي والإنساني من خلال عمل
درامي مهمة صعبة إلى حد بعيد.
وفي هذا العام اتجهت الدراما العربية إلى إنتاج عملين
دراميين تناولا أهم تجربتين صوفيتين في التراث العربي الإسلامي؛ فقد عرض على قناة
الإمارات مسلسل "مقامات العشق" الذي تناول تجربة ابن عربي في حين عرض
مسلسل "العاشق – صراع الجواري" الذي تناول سيرة الحلاج على عدد من
القنوات. وفي حين بدا العمل الأول في جانب كبير منه مناقشة مباشرة لقضايا معاصرة
بثياب أندلسية جاء العمل الثاني ليعبر عن رؤية عميقة لمرحلة تاريخية لا تنفصل عن
هذه المرحلة.
يتابع مسلسل "العاشق" شخصية الحلاج التي
تمثلها الفنان غسان مسعود منذ الثلث الأخير من القرن الثالث الهجري، إذ يبدو
الحلاج شخصية تعمل على إعمار باطنها لتحقق الخلاص الفردي لذاتها ، غير أن هاتفا
أتاه ليدعوه إلى نقل التجربة إلى الآخرين. وهذا ما دعاه إلى خوض غمار المناظرة مع محمد
بن داود الظاهري بعد أن أبلغ الشبلي بعدم رغبته في ذلك.
وتقود هذه المناظرة إلى استعداء ابن داود للحلاج؛ إذ رأى
أنه منحرف في فكره عن أصول الشريعة. ولم ينجح ابن داود في الإيقاع بالحلاج إذ أقام
دعوى ضده تولاها القاضي ابن سريج الذي برأه من تهمة الزندقة، ليباشر الحلاج فيما
بعد نشاطه الصوفي والاجتماعي إذ تعلق به عدد من المريدين، وصار شخصية مؤثرة تخشاها
السلطة. وهذا ما أدى إلى اقتياده إلى السجن وقتله في محاكمة تداول ذكرها المؤرخون.
في مقابل شخصية الحلاج ركز العمل الدرامي على شخصية
"النطل" المستوحاة من المرحلة التاريخية. والنطل نخاس يعمل على تجهيز
الجواري ليكنّ في بيوت الطبقة المتنفذة في الدولة العباسية، فهو يعلمهن فنون الأدب
والرقص ليكن جاهزات للتعامل مع هذه الطبقة، غير أن حياة الترف التي يعيشها النطل
لم تدم إذ حرق القرامطة داره وأسروه طمعا في أمواله، وقد استطاع التخلص من أسرهم
له، فاتجه إلى تأسيس عمله من جديد، إذ أقدم بالتعاون مع أحد أصحاب الأسبقيات على سرقة
الأطفال من أهاليهم لخصيهم والاتجار بهم، إلى أن أبلغت الجارية التي استخدمها
للعناية بالأطفال عنه عند الوزير، فاجتمع في السجن مع الحلاج.
وقد اتخذ السيناريو من الجواري اللواتي في بيت النطل
مدخلا إلى حياة قصر الخلافة، إذ ابتاعت القهرمانة فاطمة مجموعة من الجواري للخليفة
المقتدر، فكان بينهن "هزارا" القرمطية التي تزوجها المقتدر، وانتهت إلى
القتل بسمّ دسته لها "شغب" أم المقتدر التي كانت تسيطر على مقاليد الحكم
في ظل الخليفة الذي اختار حياة اللهو.
منذ الحلقة الأولى من العمل تبقى شخصية الحلاج منفصلة
تماما عن شخصية النطل، حتى أن المشاهد يشعر أنه أمام حبكتين منفصلتين لا جامع
بينهما، غير أن التقاء الحلاج بالنطل في السجن أبرز هذه المقابلة وحافظ على قدر من
وحدة الحبكة. على أن أهمية هذا العمل الدرامي لا تتوقف عند تسلسل الأحداث أو
علاقتها بالتاريخ.
لن يجد الباحث عن تسجيل حرفي للتاريخ ضالته في هذا
العمل، فقد استفاد المؤلف أحمد المغربي من الروايات التاريخية بصورة واضحة، غير أن
اعتماده على هذه الروايات لم يمنع إبراز رؤية فنية وفكرية متماسكة، بل إن المغربي
اعتمد بصورة كبيرة على ما ورد في سيرة الحلاج الشعبية، إذ جعل العديد من أحداث هذه
السيرة تبرز من خلال رؤيا الحلاج التي جاءت في الحلقات الأخيرة من المسلسل.
وقد نجح المغربي في هذا التوظيف للسيرة الشعبية، فالأكثر
أهمية في شخصية الحلاج هو ما رسخ في أذهان الناس عن هذه الشخصية، وليس ما حدث
بالفعل معها، ففي حين روى الكثيرون عن سحر الحلاج وشعوذاته روى الكثيرون أيضا عن
كراماته وتعلق المتصوفة به. وعدم الاتفاق على شخصية الحلاج جعلها موضوعا للقراءة
والتأويل.
صوّر العمل الدرامي حالة التصوف من خلال خلوات الحلاج
التي كان يتوجه فيها إلى الله سبحانه وتعالى، وركز بصورة معقولة على مشاهد الذكر
التي كان يجتمع فيها المتصوفة. ومن الطبيعي أن يركز العمل على احتكاك المتصوفة
بالمجتمع وبالاتجاهات الدينية الأخرى، فجاء دفاع الحلاج عن ممارسة المسيحيين
لشعائرهم من خلال مشهد يقترب من المباشرة، فيما عبر مشهد شكوى حمد لأبيه الحلاج من
استضعاف أتباع محمد بن داود له مشهدا مؤثرا ينفتح على دلالات عميقة.
انتهت أحداث العمل الدرامي إلى مفارقة أساسية تمثلت في اجتماع
الحلاج بالنطل في السجن، فحين دخل الحلاج السجن لاقاه النطل وأبلغه أنه لا يحب
شعره، ثم سأله عن تهمته التي جاءت به إلى السجن، فأجابه بأن تهمته الزندقة أو
القرمطة، فضحك النطل بصوت مرتفع وقال إن تهمته هي الفجور. مرت سنوات على النطل مع
الحلاج في السجن، فتأثر به وصار من مريديه. وحين اضطربت بغداد هرب المساجين، فحث
النطل الحلاج على الهروب، غير أن الأخير آثر البقاء في السجن.
لقد اجتمع الزاهد مع الفاجر في سجن واحد، فهرب الفاجر وبقي
الزاهد يواجه مصير القتل بمحض إرادته، وإن كان النطل قد تأثر إلى حد بعيد بالحلاج
فإن تأثره هذا يبقى شكلا من أشكال التكفير عن الخطايا، فهو ما زال غير قادر على
مواجهة مصير ارتبط بما ارتكبه من ذنوب بحق الناس.
لم يتجه الحلاج إلى السجن بذاته، بل جعل
"إيشا" المشرفة على الجواري في بيت النطل تأخذ جائزة تسليمه للشرطة،
والمطالع لهذا الحدث يتساءل عن تعليل تجيير القبض على الحلاج لصالح امرأة مثل
"إيشا". ولعل المغربي أراد هذا التجيير بالفعل، فالأمور الدنيوية عادة
ما تؤول لصالح أمثال "إيشا" من قناصي الفرص. وهي تؤول بطبيعة الحال
لصالح من حكموا على الحلاج دون أن يرف لهم جفن.
حضرت لغة التصوف في هذا العمل الدرامي بصورة تشير إلى ثقافة
الكاتب في هذا المجال، فبرزت هذه اللغة في ابتهالات الحلاج ومناظرته مع ابن داود،
غير أن أكثر ما يلفت الانتباه اعتماد العمل لغة الإيماء في محاولة للاعتماد على
موروث المتصوفة في هذا المجال:
ومن عجب الأشياء ظبي مبرقع يشير بعناب، ويومي بأجفان
فشخصية الحلاج بدت قليلة الإقبال على الكلام، تتجه إلى
الإيماء للتعبير عن دواخلها أحيانا، بل إن حوار الحلاج مع الجنيد بدا قليلا على
الرغم من الاختلاف الأساسي الذي أبرزه العمل الدرامي بينهما، وهو الاختلاف على مدى
سريّة التجربة الصوفية. وقد أبرز مخرج العمل هذا الملحظ بفنية عالية أشارت إلى
استيعابه طبيعة هذه التجربة.
لقد أبعد العمل الدرامي تجربة الحلاج عن صراعات السياسة،
فجعله ضحية لها دون أن يجعله طرفا أساسيا فيها كما جاء في بعض الروايات التاريخية،
فبدت صراعات القصر وجواريه حالة موازية لحالة الحلاج، فما يدور في القصر من مساع
لاحتياز الحكم لا تتقاطع مع مساعي الحلاج إلا بمقدار سعيه إلى نشر وعي أكثر
نورانية.
إذا طالعنا كتب التاريخ في عام 306 ه سنجدها تنوه إلى
مقتل الحلاج في هذا العام، وإن أشار ذلك إلى شيء فإنما يشير إلى أهمية هذه الشخصية
التي تنبه إليها الدارسون والأدباء من عرب ومستشرقين. وفي التفات هذا العمل إلى
شخصية الحلاج ما يفتح الباب لإنتاج أعمال درامية أخرى تتناول شخصيات جدلية وفق رؤى
واعية.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق