الخميس، 30 ديسمبر 2010

حشــرات


حشــرات


                                   علي طه النوباني

( 1 )

فجأةً غمرني ضوءٌ باهر أَعادَ  إليَّ أجواءَ الغابة   بعدَ أنْ يَنْقَشِعَ الغَيمُ وَتَنْجَلي   العاصِفة،    أقَمْتُ   في  هذا الصندوق الخشبيِّ  المحكم الإغلاق  فترةً زمنيةً لا أعرفها تساوى  فيها الليل بالنهار ،  ولفَّتني  حُلكة الظلام الدائم 0

    وها أنا الآنَ بينَ يَدَي شَخْصٍ لا أعرفه ؛ ألتَهِمُ الضوءَ كما أسدٍ جائعٍ يَنْقَضُّ  عَلى ظَبيٍ غَضّ ؛ أبحثُ ببلاهَةٍ عَنّي في واقعٍ مُخْتَلِفٍ  وَمُبْهَم ؛أنهالُ بالَّلعناتِ عَلى ذلِكَ اليومِ الَّذي فرَّقني عن أمّي الشجرة ،وأجوسُ في ذاكرتي المهشَّمة ؛لعلّي أُمسِكُ بتلك اللحظةِ الشاردةِ مِن ماضٍ سَرَقَتْهُ الألوانُ والصُّوَرُ المزيَّفة 0

   أنذا أُنْقَلُ كَما نَعْشٍ بائسٍ إلى درجٍ خَشَبيٍّ في طاولةٍ تَعْلوها أجْهزَةٌ مُخْتَلِفَةٌ مَمْلوءَةٌ بالأزرارِ والشاشاتِ  ،  وأسمعُ طقطقةً وصفيراً مُتَقَطِّعَيْنِ وباهِتين  يَخْتَلِطانِ كِلاهُما بهَمْهَمَةٍ يُصدِرها أولئك الجالسونَ مقابل هذه الطاولة  ،  يأتونَ من على مقاعدهم    فُرادى يتحادثون بكلماتٍ مقتضبةٍ مع الرَّجُلِ  الجالِسِ   قُرْبي مِنْ خلال ثقبٍ دائريٍّ في اللوحِ الزجاجيِّ    المثبَّتِ   على  مقدمة  الطاولة   ،   يتبادلون   الأوراقَ  ثمَّ  يحصُـلُ  كلٌّ  منهم  على كمـيَّةٍ  من  الأوراقِ المزخرفةِ،  البعضُ يملأ حقيبةً كاملةً والبعضُ رزمةً أو رزمتين والبعضُ الآخرُ ورقـةً أو ورقتين  ... وهكذا ...

 وأخيراً امتَدَّتْ  يَدُ الجالِسِ عَلى كُرْسِيِّهِ وراءَ الدُّرجِ الَّذي أقيمُ فيه ، وَسَحَبَني ضمنَ حُزْمَةٍ من الأوراق لِيَسْتَقِرَّ بيَ الأمرُ  في  حقيبةٍ سوداءَ  يَحْمِلُها شخصٌ مُتَناسِقُ الَهْيئةِ واثقُ العينين .  
(2)

منذُ عامَيْنِ تقريباً وأنا أتنقَّلُ من عملٍ لآخر
لا أعرفُ كلَّ الأسبابِ الَّتي دَفَعَتْني لِدِراسَةِ هذا التَخَصُّصِ الغَريب . فقد خَرَجْتُ قبل عشر سنواتٍ تقريباً من منزلِ والدي وكانَ قد استقرَّ أمْرُهُ عَلى أن أتعلَّمَ الطبَّ ، أمّا والدتي فقد كانتْ أميَلَ إلى الهندسة؛ عَلى أنَّهم لم يَكونوا يُمَيِّزونَ بين الطبِّ والهندسةِ إلا من ناحِيَةِ وَقْعِ الكلمة على مَسامِعِهِم .
وجدتُ  نفسي في مدينةٍ كبيرةٍ لا أكادُ أعرف لها حدوداً ، تصلُ بعضُ مبانيها إلى مائة طابق ، وعددٌ كبيٌر من البشر يتحرَّكونَ في كلِّ اتِّجاه؛ لا يوقِفُهُم ليلٌ ولانهار ، حَرَكَةٌ دائبةٌ كَخَلِيَّةِ نَحْلٍ في حُقولِ  قريَتي  المنسيَّة ذَكَّرَتْني بلَيْلَةٍ باردةٍ مُقمرة كانَ  مَنْزلنا فيها صامِتاً كَصَخْرَةٍ في صَحارى الموت . خَطَرَ لي في تلك الليلةِ أن أذرعَ الشـارعَ جيئةً وذهاباً ،  وأن اكسـرَ جَبَـروتَ الليل ، فَتَحْتُ البابَ بهدوءٍ لكنَّهُ أصدرَ أزيزاً حاداً ، صرخَ شـقيقي الذي كانَ مُلتَفّاً في فِـراشِـهِ كقطٍّ في كـومةٍ من القَـشّ :"حَـرامي ...حَرامي  ..." وفي أقلّ من ثانيةٍ كانَ مُسَدَّسُ والدي مُصَوَّباً نَحْوَ يافوخي ؛  فاستَدرْتُ نحوَهُ بهُدوءٍ 
ــ "أهو أنت   ؟"
ــ " أنا .. نعم ..أنا  .."
ــ " ما  الَّذي يُخْرِجُكَ الآنَ يا ابن ال "
ــ" خَطَرَ لي أن أنْظُرَ إلى الُّنجوم وأن "
قَهْقَهَ والدي حتّى ارتجتْ أركانُ المنزل
ـ " نجوم ؟! أخرجْ أيُّها الحَشَــرَة ساهِرْ قَناديلَ الحصّادين وذُباب مزبلة  القرية".                                                                                                                                      أيُّ نابضٍ مجنون يقبع تحتَ جُمْجُمَتي البلهاء لِتَقْفِزَ مِن بين كَتِفَيَّ إلى عَفاريت الليل ؛ أتَلَمَّسُ قِنديلَ الحصّادين وَطَنينَ الذُّباب ، أين أنتُم يا أهلَ قريتي .. .. ماذا تفعلون   .. يَتَسَمَّرُ الواحدُ منكم أمام هذا الصندوق الَّذي يُسمّونَهُ (تلفزيون) ، تَماثيلُ مِن حِجارَة تَدورُ في فَلَك الصمت  ثُمَّ تَأوونَ إلى فِراشٍ تَتَعَفَّنُ فيهِ أجْسادُكُم وتَنْخَرُكُمْ مَزاريبُ الليل .. ..
وجدتُ نفسي أمامَ خياراتٍ لا حصرَ لها ..  الطبُّ .. الهندسةُ .. الرياضياتُ .. البيولوجيا .. علم الحشرات .. وغير ذلك   ولا  أدري لماذا تَوَقَّفْتُ كثيراً عند علم الحشرات ، سرعانَ ما تَذَكَّرْتُ قنديل الحصّادين .. مَمْلَكَةَ النمل .. الحركة الدائبة .. الحياة .. خلايا النحل .. وذباب مزبلة قريتنا .

(3)

أوّاهِ يا أمّي الشجرة ..أيَّتُها الراسخةُ في أعماقِ الأرض الممتدةُ نحو عنانِ السماء ، ما أغربَ زمني الجديد .. أنذا قطعةٌ ورقيةٌ مزركشةٌ بالألوانِ والصُّور  في جَيْبِ قميصِ شَخْصٍ يجلسُ وراءَ طاولةٍ مستديرة ، ألمَحُ حولَهُ عدداً من الطاولاتِ المشابهةِ والَّتي يَجْلِسُ حولها أناس آخَرون .. الإضاءةُ خافتةٌ والمكانُ هادئ ، وأنا تأخُذُني قُشْعَريرةُ الحَنيِنِ إليكِ يا أمّي ..
وفجأةً اشتعلَ المكانُ بالتصفيق ، لَعْلَعَت الأضواءُ مختلفةُ الألوانِ ، أخَذتْ طبولُ الفرقةِ الموسيقيةِ ُتجَلجِلُ مصدرةً صخباً  وضجيجاً  شديدينِ .  كانت العُيونُ مُسَلَّطَةً عَلى بابٍ مُجاور للفرقةِ الموسيقيةِ عليهِ ستارةٌ حمراءُ من القماشِ الأملسِ اللامع ؛ سرعانَ ما انفضَّتْ عن امرأةٍ ترتدي ثوباً طويلاً مفتوحاً من نحرها حتّى أخمصِ قدميها . سارَتْ مَيْساً  حَتّى عَلَتْ منصَّةً أمامَ الفرقةِ الموسيقيَّةِ ، وانحنتْ مراتٍ عديدة فانطلقَ التصفيرُ والتصفيقُ  تَرَكَتْ ثَوْبَها يَنْسابُ عَلى جَسَدِها الأملسِ البضِّ حتّى سَقَطَ على الأرض فَبَدَتْ (شرابيش) ثوبٍ آخرَ يُغَطّي خُمْسَ جَسَدِها تقريباً ؛ ويُبدي نِصفَيْ كُرَتَيْنِ في أعلى صدرها وأخرَيَيْنِ في مُؤَخِّرَتِها .
أَخَذَتْ تَهُزُّ وسْطَها بصورةٍ مُتَناغِمَةٍ مع الصَّخَبِ الَّذي تُصْدِرُهُ الفرقةُ الموسيقيَّةُ ، فَدَبَّ الحَماسُ في الجُمْهور وهاجوا وماجوا
الرجلُ الَّذي كنتُ قابعةً في جيبِ قميصِه نَهَضَ مُتَرَنِّحاً بعدَ أن شَرِبَ أكثرَ من كأسٍ يحتوي محلولاً أصفر اللونِ ؛ مدَّ يدهُ في جيبِ قميصهِ فَسَحَبَني مع رُزْمَةٍ من مَثيلاتي وَتَقَدَّمَ نَحْوَ تلك المرأة قامَ بإسْقاطِنا سُقوطاً  حُرّاً فَوْقَ رأسِها فاشتَدّتْ حِدَّةُ التصفيق .
عَلِقتُ بخُصْلَةٍ من شَعْرها ، وسرعانَ ما هزَّت وسطها فَهَوَيْتُ عَلى جَسَدِها مُلامِسَةً صَدْرَها ثمَّ خصرها إلى أن رَكَلَتْني ِبرِجْلِها ضِمْنَ حَرَكاتِها الرَّتيبة 
استَقَرَّ بيَ الأمرُ على أرضيّةِ المنصَّة ، وبينما كانتْ قَدَما تلك المرأةِ تَدوسُني بينَ الفينةِ والأخرى  سَمِعْتُ صَهيلَ الصَّبايا وقهقهةَ الرجالِ وقرعَ الكؤوس .
انطَفَأَتِ الأضواءُ الساطعةُ وَبَقِيَ ضَوْءٌ خافِتٌ  ،  فَبَدا المكانُ مُوحِشـاً بَعْدَ أنْ فارَقَهُ رُوّاده اقتَرَبَ من المنصَّةِ رجلٌ مهيبُ الطلعةِ وآخرُ بائسُها ، قاما بجَمْعِنا عن الأرضِ بعنايةٍ. الرجلُ المَهيبُ قلَّبنا ورقةً ورقةً ثمَّ سَحَبَني من بين الأوراقِ وأعطاني لذلكَ البائس.
ـ هذه دفعةٌ من الحسابِ ،انصرف الآنَ وتَعودُ غداً في نفسِ الوقت .
ـ قَرَّبَني البائسُ من شَفَتَيْهِ كأنَّما يُقبِّلُني ثمَّ ضَغَطَ عليَّ في يَدِهِ وَمضى خارجاً
أنذا يا أمّي الحبيبةُ أُداسُ ألفَ مرَّةٍ بعد أن كُنتُ أستَقي شُموخي من عَظَمَتِكِ وشُموخِك . ثمَّ أُقَبَّلُ كَصَنَمٍ مُقدَّسٍ في دائرةٍ متناقضةٍ عجيبة …  ‍‍‍‍‍‍ 
(4)

كان استقبالاً حافِلاً بادَلَني فيهِ الجَميعُ القُبلاتِ والابتسامات وَمَشاعِرَ الفخر والاعتزاز لكنَّ ما نغَّصَ عليَّ هو أنَّ الجميعَ ناداني بلقب دكتور . قلتُ لهم ببساطةٍ : لقد حصلتُ على درجة الماجستير في علم الحشرات فلا تنادوني بلقب دكتور
عَيْنا والدي شَخَصَتا إلى الأعلى ؛ شَهَقَ بمَرارَةٍ ولْم يَنْبَسْ بِبِنْتِ شَفَة , أما أمّي فقد ضَرَبَتْ يَدَها على صَدْرها بِقوَّةٍ وصرختْ : حَشَـرات  ‍‍‍؟؟‍‍‍‍‍‍ أمّا الضُّيوف  فقد تَعالَتْ قَهْقَهاتُهم إلى كَبدِ السماء وأخَذوا يُبْدونَ حَرَكاتٍ تَنُمُّ عنْ الشَّماتَةِ والرَّثاء . .
في اليوم التالي جاء خالي بكوفيَّتهِ  الَّتي يَجْمَعُها عَلى يافوخِهِ كَما دَحْنونَةٍ نَبَتَتْ فوقَ صَخْرَة . زمَّ شَفَتَيْهِ العَريضَـتَيْن ليُخْفِيَ ابتسـامةً سـاخرةً ، وَفَتَحَ كيساً ورقيّاً : لَقَدْ جِئْتُكَ بِهَديَّةٍ يا خالُ . . . إنَّهُما زجاجتانِ ، جَمَعْتُ لَكَ في الأولى سِرْباً من الدَّبابير ، أمّا الثانيةُ فَفيها غَيْرُ قَليلٍ مِن الخَنافِسِ والصَّراصير وقناديل الحصّادين ،  لَعَلَّكَ يا خالُ تُجْري عَلَيْهِنَّ تَجاربَكَ لِتَحْصُلَ على درجة الدكتوراة  ؛ فَيَصْحو والداك من إغمائهما . . . وانْفَجَـرَ ضـاحكاً كما فَعَلَ جَميعُ الحاضرين  ، أمّا والِدي فَقَدْ أطْـلَقَ تنهيدةً حزينةً وقَطَبَتْ ملامِحُهُ وَلاذَ بالصمت .
خَرَجْتُ من القريةِ مهزوماً ، وَتَبعَني كلُّ أطفالِها يَطْرُقونَ عِصِيَّهُم على عُبُواتِ التَّنكِ الفارغةِ وَيُنْشِدون : "أبو الصراصير  احذرْ قرصَ الدبابير . . . أبو الذُّباب  اسمعْ صوت الغراب أبو الخنافس  تمرّغ بالترابْ " .
أينَ أنتِ يا قَرْيَتي الأثيرة !!   التوتةُ الرائعةُ التي مارَسْتُ مع أقْراني الصِّغار أجْمَلَ ألعابي في ظِلِّها لمْ تَعُدْ موجودةً ، وأكادُ لا أعرفُ مكانَها تَماماً  لكثرةِ ما تَلاصَقَت البُيوتُ الإسمنتيةُ في ذلك الموقع وغابةُ البلوط  المجاورةُ للقريةِ أصْبَحَتْ الآنَ مهجورةً بسببِ  الرائحةِ المنبعثةِ من مَحَطَّةِ التنقيةِ الَّتي أُقيمَتْ بجوارها أمّا فاطمةُ الَّتي أختزنُ فيها ذاكرةَ انطلاقةِ الشباب؛ فقالوا أنَّ  رَجُلاً مِن المدينةِ قد تَزَوَّجَها وَرَحَلَتْ مَعَه
  
(5)

الرجلُ الذي كنتُ قابعةً في جيبِ قميصهِ حكَّ  أنْفَهُ وأجابَ ابنه الصغير :" ربَّما يُصنعُ الورقُ من الأخشابِ يا بُنيّ هكذا قرأتُ ذاتَ مرّة "
رفع الصبيُّ رأسَهُ بعدَ أن أطالَ النظرَ إلى سَفينتهِ الوَرَقِيَّةِ : ياه هل هذا معقول !!
نعم يا بُنَيّ فربَّما كانتْ سفينتكَ هذه غُصناً في شجرةٍ عظيمةٍ قربَ نهرٍ متدفقٍ في غابة مطيرة !!!
أوّاهِ يا أمّي الشجرة ، لقد أصابَ هذا الرجلُ كبدَ الحقيقة  ، أين أصبح الآنَ كلُّ جزءٍ منك ِ ؟ الصناديق الحديديَّةُ المقفلةُ  بإحكام المَحافِظُ الجلْدِيَّةُ الرَّخيصَةُ مِنها والأنيقة  ، والجُيوبُ المختلفة تلك التي تأتي على الصدر أو في المؤخِّرة  ، الممزَّقُ منها والجديد المُعَطَّر  ، والعدد الهائلُ من البشر الَّذين تَنْتَشِرينَ بينهم
لم تُفْلِحْ الصناديقُ المقفلةُ ولا المَحافِظُ الجلديَّةُ الأنيقةُ ولا حتى الجُيوبُ التي تفوحُ منها رائحةُ العَرَقِ أو رائحةُ العطور المصطنعةِ في إطفاء وميضِ الذاكرة الجدارُ الشفيفُ من الرُّطوبةِ على ذلك النُّتوءِ البارز في ساقِ أمّي الشجرة ؛ صُوَرٌ مُكَبَّرَةٌ في أجزاءَ مِنها ومُصغَّرةٌ في أجزاءَ أخرى نَحْلٌ وَنَمْلٌ وذُبابٌ وبعوض . . . والأفاعي المرقَّطةُ الملساءُ تَلْتَفُّ على السيقانِ الطَويلةِ ، وأوراقُ الأشجارِ المتعبةُ تَسْتَقِرُّ عَلى سطحِ المستنقع . تَتَطاوَلُ الأشجارُ فتتَّسعُ رُقْعَةُ المشاهَدَة وَتَظْهَرُ قُبَّةُ السماءِ الزرقاءُ خلفيَّةً للأغصانِ الكثيفة
ساقُ أمّي كانَ الأجملَ والأحلى إلى أن جاءَ ذلك اليـوم
داهَمَني أزيزٌ قويٌّ وأصواتٌ رهيبةٌ مختلفةٌ  كانَتْ تَقْتَرب شيئاً فشيئاً ورَأيْتُ الأشجارَ تتهاوى  ؛ الواحدةُ تلوَ الأخرى ، فَتَحوَّلَ الأفقُ أمامي إلى صَفْحَةٍ خاويَةٍ إلاّ مِن هذه الكُتَلِ الحَديديَّةِ المحْمولَةِ على حَلَقاتٍ سوداءَ عَرَفْتُ فيما بعدُ أنَّها الناقلاتُ الَّتي سَتَحْمِلُنا إلى حيثُ يُريدون .                                          
عندما وَضَعَ ذلك الرجلُ آلتَهُ المرعِبةَ على أسْفَلِ ساقِ أمّي أخَذني  شعورٌ غريبٌ ، أحْسَسْتُ بأنّي مُقْبِلَةٌ على ظُلْمَةِ الدُّهور كيْ أتَعَفَّنَ في تُرَهاتِ اللاّنهاية ، وعندما تَهالَكَتْ أمّي اقْتَرَبْتُ سَريعاً من مَشْهَدٍ طالما تأمَّلتُهُ حتّى عانَقْتُهُ عِناقاً مريراً .ثمَّ وَدَّعْتُهُ إلى حيثُ رَفيقاتي في الشاحِنَة الرَّهيبة .
سيقانُ الأشجارِ الَّتي كانتْ بالأمسِ باسِقَةً تُطاولُ السماءَ مُلْقاةٌ الآنَ في هذا الصندوق الكبير المتحرِّك . هَديرُ الشاحِنةِ القَويّ القُبَّةُ الزرقاءُ الَّتي تعلو الأفقَ فوقنا  ؛ ومرارةُ الذُلِّ والانكِسار التَمَدُّدُ بشَكْلٍ أفُقُيٍّ هَشٍّ بعدَ الشُّموخِ والرُّسوخِ في الأرض .
الجدار الشَّفيفُ يَخْتَفي شيئاً فشيئاً وتَنْجَلي الآنَ فَجاجَةُ الجَفافِ والقَسْوَة ، صَرْصَكَةُ الحَديد وأزيزُ البَراغي الصَّدئة ، وها هِيَ أمّي الشجرة الراسِخَةُ في أصول الأرض تُجرِّبُ التَجْزئَةَ والارتِحالَ ، تَتَجَرَّدُ من أغصانِها  وَفُروعِها وظِلالِها الوارفة ، وتَهْرُسُها مَكابسُ مَعْدَنِيَّةٌ ذاتُ حَرَكَةٍ مُنْتظمةٍ مَقيتة .
النُّتوءُ المغَلَّفُ بجِدارٍ شَفيفٍ من الرُّطوبةِ والَّذي طالَما راقَبَ الحياةَ بأهازيجِ الفَرح هُوَ الآنَ وَرَقَةٌ مُزَرْكَشَةٌ بالألوانِ والصُّور يَتَناقَلُها الغُرَباء في دائرةٍ عَجيبةٍ تَبْعَثُ على الغَثيان والريبة .
(6)

تَمنَّيْتُ لو كُنْتُ نَمْلةً كَي أحْمِلَ أضعافَ وَزْني ، فَرُبَّما أستَطيعُ حينها أن أختَصِرَ هذه الرحْلةَ السيزيفيَّة إلى الطوابق العُليا فمنذُ أن تَبِعَني أطفالُ القَرْيَة بأناشيدهم الجميلة وآلاتِهم الموسيقية المميَّزة ؛ وأنا أحملُ الطوبَ والإسمنتَ إلى الطَّوابقِ العُليا عبرَ الدرجِ والسَّلالم أعلو حتّى أظنَّ أنَّني قد بَلَغْتُ عنانَ السماء ثمَّ أهبطُ حتّى أراني في العالم السفليّ .
كانَ يُلاقيني هابطاً يَتَصَبَّبُ عَرَقاً وأنا أصعَدُ السُلَّم . فَيَقولُ :" اعْرَقْ يا أبو الحشرات فالعَرَقُ طَريقُكَ إلى الخَلاص الأبديّ " …   يلْهَثُ بشِدَّةٍ ثمَّ يُقَهْقِهُ وَيُتابعُ مَسيرَهُ .
قالَ لي مَرَّةً  وَنَحْنُ نَرْتاحُ قَليلاً لِشُرْبِ الشاي  : " تَصَوَّر يا أبو الحشرات لو أنَّ كلَّ نقطَةِ عَرَقٍ تَصَبَّبَتْ مِنّي وأنا أصعَدُ وأهبطُ هذه الأدراج تَحَوَّلَتْ إلى نُقود ،إذن لَصِرْتُ مِن أثرى أثرياء هذه المدينة " وانفَجَرَ ضاحكاً.
كانَ شَريكاً بائساً ذلكَ الماردُ المسكين الذي انزلق بالأمس على سُلَّمِ العمارة ؛ فَتَهشَّمتْ تلك الهالةُ المضيئة الَّتي تُطلُّ من عَيْنيه ، نامَ في فِراشِه الأبَديّ . وَرَأيتُ في وجهه المُنْهَكِ خَلاصاً لم يأتِ ؛ وجراحاً لم تلتئم
جاءتْ زوجتهُ بعدَ أيّامٍ تُطالبُ صاحِبَ العمل بما تَجَمَّعَ لِزَوْجها  من أجْرٍ  . فَرَمَقَها بنَظْرَةٍ عنكبوتيَّةٍ حادَّةٍ ، نَسَجَ حولها خيوط المهانة والاحتقار ، وَساوَمَها على آخِر قَطْرَةِ عَرَقٍ نَزَفَها النَّسْرُ الطَّريح
 (إتفـــوه ) ثمَّ اسْتَدارتْ ذاهِبةً
ألقيتُ من يدي حِمْلاً جَديداً  .
(إتفـــوه) واستدرتُ أنا أيضا  
(7)
أنذا  ارْتَحِلُ مِنْ يَدٍ لأخرى كجاريةٍ جميلةٍ مزركشة بالألوانِ والصور يدٌ تودعُني في قاصةٍ حديديَّةٍ باردةٍ  مُظْلِمة ، وأخرى تَضَعُني في جيب القميص لدقائق معدودة ، ثمَّ تَرْكُلُني لمصيرٍ آخر
أنذا استَمِعُ إلى الأحاديث الصريحة والملغوزة ؛ أقارنُها وأربُطُ بينها ، أحاولُ أن أفْهَمَ أتَحَسَّسُ ألَمَ البعضِ عِندما  يُفارقُني ولامُبالاة البعـض الآخَر عِندما يُلْقيني بعيداً أنذا أعرف قِصَصَ الكَثير مِنَ الناس ولا أحد يعرف قصَّتي .
(8)

أوَّلُ دجاجة قَتَلْتُها بالسكِّين الحادِّ شَعَرْتُ بالدَّمِ يَتَوقَّفُ في عُروقي ، وَرُوَيْداً رويداً أقْنَعْتُ نفسي بهذا العمل،فالدَّجاج سَيموتُ على كلِّ حالٍ سواءً أعَمِلْتُ أنا هُنا أمْ عَمِلَ غيري ، وَسِوى ذلك فقدْ ساهَمْتُ في يوم من الأيّام بنفسي في تَناوُلِ لَحْمِ الدَّجاج ؛ فَماذا يَخْتَلِفُ الأمرُ الآن ؟؟
في أحَدِ الأيّام هَبَطَ سِعْرُ الدّجاج إلى أن ازدَحَمَ المحلُّ بالزَّبائن ، فَتَسابَقوا في استِعجالي لِذبح دَجاجِهم ، انزَلَقَ السِـكّين عَلى إصْبَعي وكادَتْ تَقْطَعُهُ لم يُفَكِّرْ أحَدٌ بدَمي المُراق ؛ واستَمرّوا في استِعجالي . أصْبَحَتْ المهمَّةُ غايَةً في الصُّعوبةِ،فالذُّباب يَحْتاجُ إلى مجهودٍ كبير لِكَشِّهِ ، وإصبعي النازفُ مَلأ المكانَ دَماً حَتّى لَقَدْ شَـعَرْتُ بأنَّ رأسـي يكادُ ينفجرُ من شِدَّة الألم .
لمْ يُخْـفِ الزَّبائنُ مَشاعِرَ الامتِعاضِ والقَرَف ، هَمَسَ أحَدُهُم لِصاحِبهِ : " أُنظر ؛ لَقَد اختَلَطَ دَمُهُ بِدَمِ الدجاج ! ما الَّذي يَضْمَنُ أنَّ هذا الرجل غيرُ مُصابٍ بالأيدز ! يُقالُ أنَّهُ عائدٌ مِن الخارج ".
وَبَيْنَما أنا مُنْهَمِكٌ في عَمَلي افْتَقَدْتُ هـَرْجَ الزَّبائن . نَظَرْتُ حَوْلي فَلَمْ أجـد أحداً، جاءَ صاحِبُ المحلِّ وكانَ عَـددٌ كبيٌر من جُـثثِ الـدَّجاج مُلقىً حولي تنازلتُ لهُ عن راتب الشهر وَخَرَجْتُ دونَ أنْ أنبَسَ ببنتِ شفة .
أشاعَ صاحب المحلِّ بين الناس أنَّني مجنون ، وأنَّني نفَّذتُ مذبحةً جَماعيَّةً للدَّجاج في واحِدَةٍ من نَوباتي الخَطيرة .وقالَ أيْضاً أنَّهُ شاهَدَني غيرَ مَرَّةٍ وأنا أحادِثُ الدجاج أو أتشاجَرُ معَهُ  ؛ أو أنْتَقي أجملَ دَجاجةٍ لأجْعَلَ مِنها مَلِكَةَ جَمالِ الدَّجاج !!!   وأكثرُ من ذلك أنَّهُ شاهدني مرَّةً ـ على غَفْلَةٍ مِنّي ـ وأنا أُقبِّلُ مَلِكَةَ الجَمالِ المزعومة عَلى مِنقارها !!!
(9)
مَدَّ  يَدَه إلى جيب قميصهِ واسْتَخْرَجَني ، ثمَّ لَوَّحَ بي في الهواء أمامَ وَجْهِ جَليسهِ ذي البدلة السوداء والشعر نِصْفِ الأشيب : " بهذا أستطيع أن أفعل ما أريد دَعْكَ من كلِّ هذه الترهات " .
رَماني عَلى الطاولَةِ إلى جانِبهِ . ثمَّ نَهَضَ عَن الكُرسِيِّ ذي الظَّهر العالي ، وأخَذ يَتَجَوَّلُ في الغرفة : "  كلُّ هؤلاءِ الَّذين يُشْـبِعونَكَ خُطَباً وحِكَماً يَتَحـوَّلون أمام هذا إلى لا شيء ، مُجَرَّدُ حشرات ، وإنَّ هذه الخُطَبَ  لا تَخـيلُ عـَلى أمثـالي، فقد خَبِرْتُ الحَياةَ جيِّداً ، وحَسَبْتُ عبر رحلتي الطَّويلةِ ثَمَنَ كلِّ شيء كُـلِّ شيء ". 
حَدَّقَ الأشْيَبُ في وَجْهِهِ مُتَسائلاً :  "حتّى صَداقَتُنا ؟"
صَمَتَ بُرْهَةً وهو مُسْتَمِرٌّ في التَّجْوال في الغُرفة  ؛ كانتْ عيناه الباردتان لا توحِيان بشيء : " إذا شِئْتَ الصراحة حتّى صـَداقـَتـُنا  ، ولكنّي الآنَ غيرُ راغِبٍ في الشِّراءِ ولا البيع.
نَهَضَ الأشيَبُ مُطْرِقاً وَخَرَج
جَلَسَ وراء طاولته الكبيرة ثمَّ تَناوَلَني بيَدِهِ وَقَبَّلَني قائلاً : " مع السَّلامة " .
أنا بـِدَوْري لمْ أفْهَمْ شَيْئاً في ذلِكَ الوقت ؛ فقد كان الشبّاكُ الزجاجيُّ الشفاف وراءَ الرجلِ يُفْضي إلى أفُقٍ لازورديٍّ ذكَّرني بأمّي الشجرة الرِّياحُ الدافئةُ وهيَ تَضْرِبُ ساقَها الفارعَ الطويل ، والتَشَبُّثُ بالأرضِ عَلى الرغمِ من قَطْعِ الساق وَتَشَظّي الحلم " .

(10)

" طيري يا أم عَلي طيري جيبيلي ثوب الحرير " هكَذا كانَتْ فاطِمَةُ تُغَنّي بَيْنَما كانتْ ( أم علي ) تمشي بهُدوءٍ عَلى راحَةِ يَدِها الصَّغيرة  أحياناً كانَتْ تطيرُ  لم تَكُنْ تَعـودُ إلى فاطـمةَ بشيءٍ ، ولكنَّها كانتْ تُهْدي إليها دفءَ الألوانِ وَبَهْجَةَ الرَّبيع ، وربَّما كانتْ فاطمةُ تَشْعُرُ في أعماقِ نَفْسِها أنَّها تَسْبَحُ في بحرٍ من الحرير .
فاطمة ابنة الأعوام التسعة ومجموعةٌ من صاحباتِها الصغيرات كُنَّ يَجْمعنَ حبّاتِ البلوط ؛ بَيْنَما كنتُ مع رهطٍ مِن أصحابي نَضْرِبُ أغصان شجرةِ البلّوط بعُنْفٍ حتّى يَتَساقَطَ ثمرها البُنّيُّ المشْبَعُ بالصَّلابة
عندَما كنتُ أسْتَمِعُ راكضاً لأنشودَةِ أولادِ القَريَةِ " أبو الصراصير " لَمَحْتُ مَكانَ تلك البلوطة وَقدْ عَبَرَهُ شارعٌ إسفلتيٌّ عَريض ولولا أنّي كنتُ قدْ عَرَفْتُ أنَّ فاطمةَ قدْ تَزَوَّجَتْ وسكنتْ في المدينة الكبيرَة لَقُلْتُ أنَّها مازالَتْ هُنا تَلْعَبُ مع (أم علي ) ولقلتُ أيضاً أنَّ صوتها الرائعَ ما يَزالُ يَتَناهى إلى أذني " طيري يا أم علي طيري "
تعرَّفتُ إلى وَجْهِ فاطمةَ بصُعوبَةٍ عِندما شـاهَدْتُها في السـوقِ تَخْرُجُ من بابِ سَيّارَةٍ فارهةٍ ، ولا أعرفُ لماذا نَظَرْتُ عَلى الفور إلى راحةِ يدها التي كانت تمسك بها حَقيبة جلدِيَّةً سَوْداء  كانتْ آخرُ رسالةٍ وَصَلَتْني من فاطمـةَ عندمـا كنتُ في السـنةِ الثالثةِ في الجامعة ، ذكَرَتْ لي أنَّ الكَثيرينَ مِمَّنْ يَدْرُسونَ في الخارج عادوا مُتزوِّجين وأنَّها لا تُحِبُّ الانتظار  
الرجلُ الَّذي خَرَجَ مِن السيّارة الفارهة ـ ذاتِ السيّارَةِ ـ وَقَفَ قُرْبَ قَفَصٍ فيهِ عُصفورٌ جميلٌ وَسَأَلَ عن ثمنه ، قال صاحبه :"ليسَ للبيع " . لمْ يَكْتَرِثْ لهذه العبارة ؛ واسْتَخْرَجَ من جَيْبِهِ بعضَ النُّقود قائلاً :" أمُتَأكِّد أنتَ من ذلك " ، ثمَّ حَمَلَ القَفَصَ وسارَ معْ فاطِمةَ نحو السيّارَة .
أنا أيضاً لا أريدُ أن أفْهَمَ كلَّ شيء ، فأنا اليومَ في حالٍ آخر كلُّ ما أفْعَلُهُ هُوَ مُتابَعَةُ الراقِصَة ، حِمايَتُها مِمَّنْ لَعِبَت الخمرةُ بعُقولِهِم أو اشتدَّ عَلَيْهِم شيطان المراهَقَة ؛ فَظَنّوا أنَّهُم في  (هنولولو ) بكلِّ بساطةٍ أذكِّرُهُمْ بأنَّ غَرائزَهُمْ البَيولوجيَّة يَجِبُ أن تَبْقى في كُمونِها الجميل أنْ تَسْتَقِرَّ في صخور المفارَقَة تَتَلَهّى في حَدَقاتِ العُيون ولا تَتَجاوَزُها إلى الأيدي مَثلاً  ، وهكَذا ودونَ أنْ يَعْرفَ أحدٌ فَأَنا أعْمَلُ في صُلْبِ تَخَصُّصي العِلميّ : أمْنَعُ الذباب من الاقتِرابِ من الحَلوى ، أساعدُ اللَّحَظاتِ في حَرْقِ سَطْوَةِ الزمنِ البائس ، وألوذُ بدَوْرٍ يَخْتارُني بَدَلاً من أنْ أموتَ في دَوْرٍ أختارُه .

هناك تعليق واحد:

  1. مكافحة حشرات بمكة
    مكافحة حشرات بالطائف
    تخلص من بق الفراش, الصراصير, البراغيت, النمل الابيض, الفئران باستخدام مبيدات حشرية قاتلة للحشرات مع شركة صقر البشاير, فنحن شركة مكافحة حشرات ذو خبرة بمكة والطائف نقوم بالقضاء على الحشرات نهائياً عن طريق عمالة مدربة جيداً على مكافحة الحشرات ورش المبيدات الامنة على منزلك
    شركة مكافحة حشرات بمكة
    شركة مكافحة حشرات بالطائف
    اتصل بنا على 0500941566
    http://www.elbshayr.com/3/Pest-control

    ردحذف