الخميس، 25 يناير 2024

قضية جنوب أفريقيا أمام محكمة العدل الدولية تكشف أيضاً الولايات المتحدة والغرب

 

كتبتها: مارغريت كيمبرلي، محرر تنفيذي في موقع BAR (Black Agenda Report) وكاتب عمود

 17 يناير 2024

ترجمها عن الإنجليزية: علي طه النوباني

إن اتهام إسرائيل بالإبادة الجماعية من قبل جنوب أفريقيا يثبت أن هذه الكلمة الخطيرة للغاية يجب أن تستخدم في كثير من الأحيان بدلاً من التعامل معها على أنها نادرة. لقد ارتكبت الولايات المتحدة ودول الغرب عددًا لا يحصى من عمليات الإبادة الجماعية، ويجب وصف أفعالهم على هذا النحو.

في 11 كانون الثاني (يناير) 2024، بدأت محكمة العدل الدولية في الاستماع إلى تهمة الإبادة الجماعية التي وجهتها جمهورية جنوب إفريقيا ضد دولة إسرائيل. لقد صادقت إسرائيل على اتفاقية الإبادة الجماعية، وبالتالي فهي ملزمة بالتمسك بمبادئها. ليس من الصعب العثور على تعريف الإبادة الجماعية، كما أنه ليس من الصعب فهمه.

في هذه الاتفاقية، تعني الإبادة الجماعية أياً من الأفعال التالية المرتكبة بقصد التدمير الكلي، أو الجزئي، لجماعة قومية، أو إثنية، أو عنصرية، أو دينية، بصفتها هذه:

قتل أفراد الجماعة؛

التسبب في ضرر جسدي أو عقلي خطير لأعضاء المجموعة؛

تعمد فرض ظروف معيشية على المجموعة بهدف تدميرها الجسدي كليًا أو جزئيًا؛

فرض تدابير تهدف إلى منع الولادات داخل الجماعة؛

نقل أطفال المجموعة قسراً إلى مجموعة أخرى

ومن الواضح أنَّ قطع المياه والكهرباء، وقصف المستشفيات، ومنع المساعدات الغذائية والطبية، كلها تندرج ضمن هذا التعريف. ولم تكتف إسرائيل بارتكاب هذه الأفعال علناً فحسب، بل إن مسؤوليها يتفاخرون علناً بارتكابهم هذه الأفعال، ويجعلون من السهل إثبات قضية جنوب أفريقيا.

ولكن، هنالك نقطة أخرى يوضحها هذا التعريف، وهي أن الولايات المتحدة ارتكبت وترتكب جرائم إبادة جماعية محليًا ودوليًا. وبالطبع فقد لعب السود الدور الأكبر في إثارة هذه القضية بدءًا من عام 1951 عندما نشر مؤتمر الحقوق المدنية كتيبًا بعنوان "نحن نتهم بالإبادة الجماعية" ووثق القضية ضد الحكومة الأمريكية. لا تزال هذه الاتهامات سارية لأن السود كانوا المجموعة التي كانت ضحية السجن الجماعي في المقام الأول، وجميع التأثيرات الأخرى للرأسمالية العنصرية، بدءًا من الحرمان من حقوق السكن إلى الرعاية الطبية اللائقة.

وإذا كانت إسرائيل ترتكب إبادة جماعية في غزة، فإن الولايات المتحدة فعلت الشيء نفسه، ودعمت آخرين في ليبيا وسوريا والصومال واليمن وهايتي. هذه القائمة الطويلة من الجرائم هي أحد الأسباب التي جعلت وزير الخارجية أنتوني بلينكن ومسؤولين آخرين يصفون اتهامات جنوب أفريقيا ضد إسرائيل بأنها “لا أساس لها من الصحة”. إذا اعترفوا بالإبادة الجماعية التي ارتكبتها إسرائيل، فإن ذلك لن يفضح مسؤولية الولايات المتحدة فحسب، بل سيتعين عليهم الاعتراف بأخطائهم أيضًا.

يجب ألا يُنظر إلى مصطلح الإبادة الجماعية على أنه ينطوي على نوع من المعايير العالية التي لا يمكن استخدامها إلا في ظروف نادرة. بل على العكس من ذلك، ينبغي استخدامه في كثير من الأحيان حتى يتسنى الكشف عن ذنب الولايات المتحدة. إن الممارسة الأمريكية المتمثلة في فرض إجراءات اقتصادية قسرية، والمعروفة باسم العقوبات، تمنع شعوب كوبا وإيران وزيمبابوي وفنزويلا و30 دولة أخرى من تأمين احتياجاتهم الأساسية من الغذاء والرعاية الطبية. تعتبر التدابير الاقتصادية القسرية جريمة حرب بحكم تعريفها لأنها تفرض عقابًا جماعيًا على المدنيين.

لقد قدمت جمهورية جنوب أفريقيا للعالم خدمة جليلة، ليس فقط لأنها تكشف خطورة جرائم إسرائيل، بل لأنها تكشف أيضًا كيف تم تطبيع هذه الجرائم في جميع أنحاء العالم. وبطبيعة الحال، ينضم حلفاء الولايات المتحدة مثل كندا وألمانيا والمملكة المتحدة إلى إنكار مطالبة جنوب أفريقيا. أولاً، يفعلون ما يُطلب منهم لأنهم دول تابعة صغيرة جيدة وموثوقة، لكنهم انضموا إلى جرائم الولايات المتحدة، ولديهم أيضًا تاريخهم الخاص من الإبادة الجماعية.

وقعت أول إبادة جماعية في القرن العشرين في ناميبيا، التي كانت مستعمرة ألمانية آنذاك، في الفترة من 1904 إلى 1908، عندما قُتل الآلاف من شعب الهيريرو أثناء محاولتهم تحرير أنفسهم من الحكم الإمبراطوري. ولم تغرب الشمس أبدًا عن الإمبراطورية البريطانية بسبب وحشيتها التي ارتكبت في الخمسينيات من القرن الماضي أثناء النضال الثوري في كينيا عندما تم استخدام عمليات القتل الجماعي ومعسكرات الاعتقال لإخماد التمرد. إن التدمير المنهجي للسجلات التي وثقت هذه الفظائع هو دليل على ذنب بريطانيا في ارتكاب الإبادة الجماعية.

إن الاهتمام الموجه إلى قضية محكمة العدل الدولية في لاهاي هو فرصة لرفع حجاب السرية والتواطؤ وتوعية العالم بأن الممارسات الطبيعية هي في الواقع إبادة جماعية. كل الحروب والتدخلات التي تراوحت بين تغيير النظام في هايتي إلى الغزو الشامل للعراق وأفغانستان، كانت تهدف إلى تدمير الجماعات الوطنية. ولا ينبغي أن يكون الرد هو التوقف عن استخدام كلمة الإبادة الجماعية، بل جعل استخدامها أكثر شيوعاً. إن القيام بخلاف ذلك يسمح للمذنب بالتصرف مع الإفلات من العقاب.

لقد خلقت جنوب أفريقيا أزمة للعالم، ولابد من الإشادة بها على قيامها بذلك. الآن يعرف الملايين من الناس كيف يتم تعريف الإبادة الجماعية ويعرفون أن دولهم مذنبة بهذه الممارسة. لقد أصبح الآن الخوف أقل بشأن تسمية الأسماء، كما أصبح هناك استعداد أكبر للتحدث بصدق عما هو مقبول في كثير من الأحيان. لقد كتبت دول الغرب الجماعي كما تسمي نفسها التاريخ وتبرأت من نفسها على الرغم من كونها الجناة على مدى قرون. المسؤولون الإسرائيليون مرتكبو جرائم إبادة جماعية، لكنهم ليسوا وحدهم. ويجب محاسبة كل من يساعد ويحرض.

لقراءة النص بلغته الأصلية اضغط على الرابط أدناه

Black Agenda Report

https://www.blackagendareport.com/south-africas-case-icj-also-exposes-us-and-west

 


الأحد، 31 ديسمبر 2023

رسالة إلى أبي رُغال

 

                                                       شعر: علي طه النوباني

تَوارَ فَـإِنَّ سَـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــوادَكَ بـــادِ

وَوَجهُـكَ أُسُّ خَـــرابِ البِــــــــــــــــــــــلادِ

وَأنتَ خُــــــــــــــــــــــــــواءُ الطَّريقِ وَأنتَ

غِيابُ الهُدى في القُرى والبَوادي

وَأنتَ حِــــــــــــــــــــــــــــدادٌ يُغطّي مَدانا

وَأنتَ غُـــــــــــــــــــــــرابٌ غَفا في الرَّمادِ

وَأنتَ الهَــــــــــــــــــــــــزيمَةُ في كُلِّ فَجرٍ

وَأنتَ الرَّداءَةُ في كُـــــــــــــــــــــــــــــــــــلِّ نادِ

وَلولا نَراكَ تُفرِّخُ شُـــــــــــــــــــــــــــــــــــــؤماً

لَكُــنْـتَ عِداداً بِصَـــــــــــــــــــــفِّ الجَمادِ

وهذا التُّرابُ تَناســــــــــــــــــــلَ عِشْقاً

فَلَيسَ يُســــــــــــــــــــــــــــــاكِنُ قَفزَ الجَرادِ

خَذلْتَ المَواسِــــــــــــــمَ والزَّهْرَ لُؤْماً

وَأَطلقْتَ نارَكَ صَـــــــــــــوبَ الجَوادِ

وَيَوماً سَــــــــــــــــــتَهوي جَريحاً ذَليلاً

وَتَفنى وَحـــــــــــــــــــــــــــــــــــيداً بِغَيرِ عِدادِ

وَأُمُّ المَعــــــــــــــــــــــــــــــــارِكِ جاءَتْ مِراراً

فَأَســـــــــبَلْتَ فيها فُصــــــــــولَ الحِدادِ

خَذَلْتَ الرُّجـــــــــــــــــــــــولَةَ وَالحَقَّ لُؤْماً

وَجانَــبْتَ مَجـــــــــــــــــــــداً طَويلَ العِمادِ

وَسَــــــــــــــــــــــــوفَ أُبَدِّلُ جِلدي بِشَوكٍ

إِذا ما سَـــــــــــــــــــــــــــمِعْتُكَ يوماً تُنادي

سَـــــــــــــــأَنفِي المَوانئَ إِنْ كُنــتَ فيها

وَأُطفِئُ فيها شُــــــــــــــــــــــــــــــموعَ الوِدادِ

وَأَقصِــــــــــــــــفُ صَوتَكَ والأُفقُ يَغلي

وَأَكتُبُ وَحدي فُصــــــــــــــــــولَ الرَّشادِ

لِأَنــــــَّكَ مَـــــــــوْتٌ، لِأَنـــِّيَ صَـــــــــــــــــــــــــوْتٌ

لِأَنَّ المَشـــــــــــــــــــــــــــــــــاعِلَ مَجدٌ يُنادي

أقاوِمُ حَشْــــــــــــــدَ الوُحوشِ الضَّواري

وَأَنتَ تُغازِلُ فُجْرَ الأَعــــــــــــــــــــــــــــــــــــــادي

سَــــيَهوي الرَّقيعُ، وَيَعلو الرَّبيـــــــــــــــــعُ

وَتَمضي بِعــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــارِكَ واداً لِوادِ

وَمِثلُكَ لَمْ تَصـــــــــــــــــــــــــــــــــــطَفيهِ المَثاني

فَأَثــخن طَعْناً ظُــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــهورَ العِبادِ

دَعَتْكَ الثــُّريا فَأَســــــــــــــــــــــــــــــــــبَلــْتَ جَفْناً

كَســــــــيراً لِتَسْـــــــــــــــــــكُنَ تَحْـــــــــتَ الرَّمـــادِ

فَما نِلْتَ مَـــــــجــــــــداً أَثيـــــراً يُحــــــــــــــــاكى

ولا غِبْتَ عَنْ صَــــــــــــــفَحاتِ السَّـــــــــــوادِ

سَــــنَطوي الرِّســـــــــــــــــــالَةَ والدَّربُ يَبْقى

وُســـــــــــــــــومَ المُحــــــــــــــــــــارِبِ بَينَ الوِهادِ

وَيَكفِيكَ أنـــَّكَ سَـــــــــــــــــــــــــــــــطرٌ قَصـــــــــيرٌ

تـَقـَــنـَّعَ وَحـــــــــــــــــــلاً وَما رَدَّ عــــــــــــــــــــــــــــــــــادي

 


الأحد، 24 ديسمبر 2023

غَـــــزَّةُ جَــــنْدَلٌ وَحِصـــــــــــــــــــــــــــــــارُ

 



شعر: علي طه النوباني

شَــــــــــخَصَتْ إِليكَ تَوَسَّـــــــلُ الأَنظارُ            

                   يا رَبُّ غَـــــزَّةُ جَــــنْدَلٌ وَحِصـــــــــــــــــــــــــــــــارُ

يا ربُّ غَـــــزَّةُ والدِّيـــارُ كَأَنَّــــــــــــــــــــــــــــــــها               

                    قَلبٌ تَمَرَّغَ بالدُّمــــــــــــــوعِ يُــــثــــــــــــــــــــــــــارُ

جَمَعوا لَها مِن كُلِّ صَوبٍ مُجــرِماً           

                   فَمَضى الـرَّبيعُ، وَأُطفِئَتْ أَنـــــــــــــــــــــوارُ

والكـــــونُ أَصــــــــــبَحَ ناصِلاً مِنْ لَونِهِ              

                     يُردِي الأَبِـيَّ وَيَــــظــــهَـــــــــرُ الخَــــــــــــــــــوّارُ

وَتَجَـــــمَّــــــــــــــــعَ الأَوباشُ حولَ دِيارِنا           

                     فَبَــــــــدا الطَّــــــــــــــريــــــــقُ تَحُــــــفُّهُ الأوزارُ

تأتي الأَوابِــــــــــــــدُ كُلَّما أَغــــــــــــــــــــــرَيْتَها                 

                     فَــتَرى البُغاثَ وَتَنتَحي الأَقمــــــــــــــارُ

 فانطق بما تَروي البنــــادق إنَّهــــــــــــا  

                     بابُ الحَقيقـــــةِ حَيثُمــــا تَحتــــــــــــــــــــــارُ

والنارُ تَقدحُ جِيفَةً مَســــــــــــــــــــمولَةً                 

                     مِن جَفْنِ مَسْـــــــــخٍ حَولَهُ الأَســـوارُ

والنارُ تُحـرقُ أَوجُهاً مَشــــــــــــــــمولَةً        

                      بالخِزيِ تَــنْـبُتُ حَـــــولَها الأقــــــــــــــــــذارُ

والنارُ تَصـــــــــفَعُ ألسـُــــــــــــــــــناً هَدّارَةً                  

                       بالشَّــــــــــــــينِ يَعزِفُ لَحــنَها الأَغــــــيارُ

والنارُ تَفْــرِزُ مالـِـــــكاً مِن زائـِـــــــــــــــــــرٍ        

                         وَسِــــــخٍ تَعاقَبَ جَمْعَهُ الأشـــــــــــرارُ

والنارُ مِنْ ياسينَ يَسمَعُها النَّدى               

                        وَعَلى الصـَّــــــــــــــــدى يَتَفتَّحُ النُّــــــــــوارُ

لِتُغادِرَ الغِـــــــربانُ دَوحَ فَضـــــــــــــائنا               

                       وَتُضيءَ بالشُّـــــــــــــــــــهداءِ هذي الدّارُ

وَلَسـوفَ نَغرفُ فَجرنا مِنْ لَيلِكُم            

                          مَـهما أَقمتـُـمْ أيُّها الفُجـّــــــــــــــــــــــــــــــــــــــارُ

وَلَسوفَ نَمسَحُ خَطوَكُمْ عَنْ أَرضِنا        

                         حتى تَعودَ لِعِشْــــــــــــــــقِها الأَشــــــــجارُ

والنارُ حَرفُكَ إذ تُحدِّثُ مُجْــــــــــــــرِماً              

                        نَــزَقٌ يُـمَـزِّقُ شَـــــــــــــــــــأوَهُ وَغُبـــــــــــــــــــــــــــارُ

والنارُ دَربُكَ والمَرافئ كُــلـــُّــــــــــــــــــــــــــها       

                          نامَتْ، فَأَشــــــــــــــــعَلَ غَيظَها الأبـــــــرارُ

جاءَ المُدَنَّسُ يَبتَغي أَوطــــــــــــــــــاننا         

                          فَرَفَعتَ سَـــــــــــــــــــــــــــــيفَكَ، حَدُّهُ بَــــتّـــارُ

لَمْ تَـــكتَــرِثْ بِحَـــــــديدِهِمْ أو نارِهِمْ          

                         فالحَقُّ أَبلجُ، والخُـــنـــــــــــــــــــــــــــــــوعُ دِثارُ

هذا الترابُ مُنافـِــحٌ عنْ أهـــــــــــــــــلِهِ        

                            مَهما تَعاظَـــمَ صَـــــــــــــــــــــــوتُهُ الهَــــــدّارُ

لَهفي لِغَزَّةَ والأَحِـــــبَّــــةُ كُلـــــُّــــــــــــــــهم              

                             لَبِسـوا السَّوادَ وَوَدَّعوا إذ ســــــــاروا

لهفي لِغَزَّةَ والدُّروبُ تَناثَـــــــــــــــرَتْ              

                            وَرِجالُها فــــــــــوقَ الذُّرى ثُــــــــــــــــــــــــــــوّارُ

إنْ رُمْتَ مَجداً فاقتبِسْ مِنْ سِفرِهِمْ            

                           أَو فاحـتَـطِــبْ مِمّا رَأَى الأَغْـــــــــــــــــــرارُ

تِلكَ المَســــــــــــــــــــــــــالِكُ رُتبةٌ وَمَعــــــــــارِجٌ          

                           تَعـلو وَتدنو بَينَها الأطـــــــــــــــــــــــــــــــــــــوارُ

أَرأَيتَ وَجهكَ وَالعُلـــــــــــــــــــــوجُ تَوافَدوا           

                          وَعَلتْكَ مِنهُمْ ذِلَّةٌ وَصَـــــــــــــــــــــــــــــــــغارُ

ســــــَـــــتُراقِبُ الأَيــّـــــــــــــــام حتّى تَـنتَــــــهي         

                          صِـــــــــفراً، وَيَصنَعَ دَهرَكَ الأَحــــــــــــرارُ

الخميس، 14 ديسمبر 2023

فلسطين بين نفاق الأصدقاء وسفالة الأعداء

 

بقلم: علي طه النوباني

في تصريح لوزير الخارجية الروسي لافروف يقول: "إن موسكو لن توافق على أي تسوية تمس أمن إسرائيل، ولا تشمل إقامة دولة فلسطينية".

وربما يبدو حديث لافروف لبعض العرب مغريا على الرغم من الإسفين الذي يدقه في الحقّ الفلسطيني، وهو أمن ما يسمى بإسرائيل!

كيف يكون أمن دولة فصل عنصري "أبارتيد" تنكر حق العودة للشعب الفلسطيني كما أقرته القوانين الدولية، وتسمح لنفسها بالاستيطان في أي قطعة أرض تحتلها ناظرة إلى الناس الأصليين فيها على أنهم مجرد سكان تنقلهم حيث تشاء، وتبيدهم متى تشاء.

كيف يمكن لأحد أن يطلب الأمن لسارق أو قاتل دون أن يحقق العدالة للضحية؟!

ليس من حق أي دولة تمارس الفصل العنصري أن تنعم بالأمن حتى تزيل جميع مخالفاتها للقانون الدولي، وما عدا ذلك فإن أي حديث عن أمن ما يسمى "إسرائيل" هو هرطقة ونفاق وتلاعب بالمنطق والقانون الدولي وحق العرب والمسلمين والفلسطينيين الثابت الذي لن يتم التنازل عنه مطلقا، وسيبقى مهددا للأمن والسلم العالمي إلى أن يتم تحقيق العدالة للفلسطينيين دون نفاق أو مواربة أو لف ودوران.

لقد قام الكيان الصهيوني المسمى "إسرائيل" على التطهير العرقي للسكان الأصليين العرب-الفلسطينيين، وإنما يتم تحقيق الحد الأدنى من العدالة بتحقيق ما يلي:

1-  إنهاء سياسة الفصل العنصري في الشكل الجديد للدولة في فلسطين والتي ستكون دولة لكل مواطنيها، واعتبار كل شخص يؤمن بأفضلية عرق على عرق أو دين على دين أو لون على لون مجرما مكانه السجن، وليس مشاركا في رسم السياسات ومتخذا للقرارات كما هو الحال في دولة الكيان المجرمة المدعوة "إسرائيل".

2-  تنفيذ حق العودة للشعب الفلسطيني لأي بقعة من فلسطين دون أي انحراف عن النص الحرفي للقرارات الأممية ذات الشأن.

3-  جميع فصائل المقاومة، وعلى راسها المقاومة الإسلامية حماس، هي جزء أساسي من حركة النضال والكفاح المسلح المشروع ضد الاحتلال والفصل العنصري والتمييز العرقي والديني. ومن حق هذه الفصائل أن تشارك في الشكل الجديد للدولة سياسيا وإداريا وفي كافة مناحي الحياة.

إن أي تعاطف مع الحق الفلسطيني لا يستوفي هذه المبادئ هو تعاطف الأعلى مع الأدنى، وهو يضرُّ القضية أكثر مما ينفعها. كما أن الحديث عن أمن ما يسمى إسرائيل دون إنهاء الفصل العنصري وتنفيذ القرارات الدولية، وأبرزها حق العودة، هو حديث عن حماية مجرم قاتل من المحاكمة، وهو ذر للرماد في العيون وضحك على الذقون.

العالم اليوم بين خيارين لا ثالث لهما: أولها تحقيق العدالة للفلسطينيين، وهو ما قد يمنحه شيئا من الأخلاقية للاستمرار ومواجهة أزماته الصعبة في الاقتصاد والبيئة وغيرهما، وثانيهما أن ينفجر الاحتقان لملياري مسلم يشعرون بالاضطهاد والظلم فيكون وبالا على العالم باسره.

يبدو أن السيد لافروف يتحدث بما يسمعه من السياسيين في بلادنا العربية والشرق الأوسط، وليس بما يمليه الحق والعدل والمنطق. وينبغي هنا أن نشير إلى أن هؤلاء السياسيين في منطقتنا لا يطرحون أنفسهم قادة لنظام عالمي جديد كما تفعل روسيا. فإذا ما أصرت روسيا على تقديم نفسها على أنها رائدة العالم الجديد، فعليها أن تقدم طرحا ثوريا ينحاز للعدالة والحق، وألا تمارس النفاق لأدوات الإمبريالية العالمية كما تفعل اليوم. وما عدا ذلك فإنه ينبغي على قوى التحرر في منطقتنا أن تنظر إلى روسيا على أنها إمبريالية ناشئة تسن أسنانها لكي تفعل كما يفعل غيرها من القتلة والمجرمين في هذه الغابة الموحشة.

 

 


الخميس، 23 نوفمبر 2023

الحق الفلسطيني والتأثير على الرأي العام العالمي

 

بقلم: علي طه النوباني

تَجوَّلَ وزير الخارجية الأمريكي بلينكن في العديد من العواصم العربية والإسلامية متحدثا عما أسماه حق الكيان الصهيوني في الدفاع عن نفسه. وكم كان مؤلما ألا نجد بين الساسة العرب مَن يَردُّ على بلينكن مؤكدا على حق الشعب الفلسطيني الأصيل والثابت في القانون الدولي في الكفاح ضدَّ الاحتلال بكل الطرق الممكنة مِن أجل تقرير مصيره على ترابه الوطني. وأبعد من ذلك فإن أحدا لم يقل له أن المستوطنين هم سكان غير شرعيين سرقوا أرض الفلسطينيين بالقوة، وهجَّروا أصحابها الأصليين، وأنهم جميعا مُجندون في قوات جيش الكيان الصهيوني أو على قوائم الاحتياط، وهم مسلحون ويرتكبون الجرائم بشكل يومي ضد الفلسطينيين العزل، ولا يجوز التعامل معهم على أنهم مدنيون.

لقد قَدَّم بلينكن السردية الصهيونية بكل ما فيها من تزوير وانحياز وخيانة للحقيقة، وبكل ما لها من دعم متعدِّد المصادر وغير محدود يمتد من الفضائيات ووكالات الأنباء مرورا بالمشاهير على وسائل التواصل الاجتماعي، ووصولا إلى الجماعات التي نظمتها الصهيونية للتلاعب بالرأي العام وتزوير المعلومات وقلب الحقائق. وإذا نظرنا على الجانب الآخر إلى السردية الفلسطينية، فإننا نجدها قائمة على جهود فردية مشتتة هنا وهناك تحتاج إلى الكثير من التنظيم والدعم لكي تكتسب الاستمرارية والقوة في مواجهة البروباغندا الصهيونية، ولكيلا تكون مجرد موجة مرافقة لطوفان الأقصى تنتهي بانتهاء المعركة.

ربما كان ملحوظا طوال فترة هذه الاعتداءات الوحشية على غزة أن عاملين رئيسين يتحكمان في إمكانية الوصول إلى وقف إطلاق النار، أولهما الوضع الميداني للقتال، وثانيهما ضغط الرأي العام العالمي الذي يضغط على الحكومات الغربية بحكم طبيعة تلك الأنظمة التي تعتمد على الانتخابات والحزبية ضمن الأشكال الديمقراطية التي تؤطر الدولة هناك، ولا يفوتني هنا أن أشير إلى أن ذلك لا ينطبق بالمقدار نفسه على الدول غير الديمقراطية التي لا يهمها صوت المتظاهرين ولا مشاركتهم في الانتخابات لأنها تستطيع أن تستخرج الموتى لكي يصوتوا ثم يعودوا إلى قبورهم غير آمنين، ولأن الأحياء أحيانا يتمنون الانضمام إلى سكان القبور لأنَّ قدرة سكان القبور على الفعل والتأثير أعلى من قدرتهم.

وعلى سبيل المثال فإن أهم أدوات العمل للتأثير في الرأي العام العالمي هي وسائل التواصل الاجتماعي، ولعل أبرزها الفيسبوك وإكس (تويتر سابقا)، وربما يكون معروفا للجميع أن فيسبوك يُصمم قوانينه وخوارزمياته لدعم السردية الصهيونية، ومعاداة السردية الفلسطينية. أما تويتر فيقدم هامشا واسعا لحرية التعبير، ويسمح لجميع الأطراف بطرح آرائهم دون تحيز فضلا عن أن تويتر هو الأقوى في التأثير على الرأي العام، وعلى كل حال فإن تويتر حاليا يتعرض لضغوط هائلة من الصهيونية لكي ينحاز لسرديتهم المزيفة وهو ما يتطلب البحث عن بدائل تساعد في تحقيق الأهداف المنشودة.

وإذا ما دخلنا إلى تويتر في هذه الأيام وبدأنا بالبحث عن الأشخاص الذين يحاولون تقديم السردية الفلسطينية باللغة الإنجليزية لكي يؤثروا في الرأي العام العالمي؛ فسنجد أن عدد صانعي المحتوى أو المتفاعلين معهم بالإعجاب أو بإعادة المشاركة قليل جدا بالمقارنة مع العدد الكلي للعرب والمسلمين ومناصري القضية الفلسطينية في العالم.

عندما نقوم بالبحث عن صفحات الصحفيين والناشطين في غزة والضفة الغربية، نجد أشخاصا كثيرين حاولوا ونشروا رسائل إعلامية قوية ومتنوعة لكنَّ صفحاتهم لا يتابعها سوى العشرات، بل إن بعض منشوراتهم المهمة لم تحظ بإعجاب واحد أو مشاركة واحدة. وعبر فترة طوفان الأقصى نجد أن العديد منهم إما استشهدوا أو انقطعت عنهم الاتصالات فانقطعت منشوراتهم.

ولسخرية القدر، كلنا نذكر أن شخصا ما كان يلفق صورة مزورة أو فيديو مفبرك ويكتب عنده: "لا تخرج قبل أن تقول كذا" كان يحصل على مائة ألف إعجاب وأكثر، فأين اختفى ذلك الجمهور عندما صرنا بحاجة للتأثير على الرأي العام بما يدافع عن مصالحنا كأمة وليس من أجل ربح مالي أو نجومية شخصية أو تسلية عبثية أحياناً.

أعتقد أن ذلك يعود إلى أسباب عديدة منها قلة العارفين بأهمية كسب تأييد الرأي العام وأساليب التأثير والإقناع، ومنها أيضا القوانين التي تحد من حرية الرأي، وتجعل الإنسان خائفا من مشاركة أي شيء أو مجرد التعبير عن الإعجاب به مهما كان يعبر عن الحق والصواب. ولكن السبب الأهم هو عدم وجود مؤسسة أو مؤسسات عربية تتبنى التأثير على الرأي العام العالمي لصالح القضية الفلسطينية بكل الوسائل الممكنة، وتضع الاستراتيجيات اللازمة لذلك بحيث تميز بين قصير المدى منها مثل فترة طوفان الأقصى، وطويل المدى منها والذي يستمر العمل به مهما كانت الظروف. كما أن وجود هذه المؤسسة أو المؤسسات من الممكن أن يؤدي إلى وضع استراتيجيات لمقاطعة مواقع التواصل الاجتماعي التي تنحاز لترجيح كفة على أخرى مثل فيسبوك وممتلكاته الأخرى مثل واتساب وإنستجرام.

ربَّ قائلٍ بأن الفضائيات تقوم بهذا الدور، لكن الفضائيات تؤطر المحتوى وتضع له حدوداً لا تناسب مصلحة القضية الفلسطينية دائما، وعلى سبيل المثال فإن أكبر فضائية عربية رغم دعمها الواضح للقضية الفلسطينية لا تتطرق إلى مسألة حق الشعب الفلسطيني في مقاومة الاحتلال، ولا تتطرق لتوضيح عدم شرعية الاستيطان في الضفة الغربية وقطاع غزة، ولا تتحدث عن حق العودة للشعب الفلسطيني، وهي حدود تقررها الدولة المضيفة للفضائية التي تؤطر العمل الإعلامي وتقرر ما يقال وما لا يقال بغض النظر عن مصلحة القضية وحقوق الشعب الفلسطيني، كما أن تاريخ الفضائية ودخولها في معتركات خِلافية في الزمن الماضي يؤثر سلبا على ما تقدمه في معترك آخر حتى لو كان تناولها له فيه شيء من الموضوعية.

إذن نحن بحاجة إلى مؤسسة أو أكثر تتبنى التأثير على الرأي العام؛ تقوم على حقوق الشعب الفلسطيني كما هي مقررة وثابته في القوانين الدولية والقرارات الأممية؛ وعلى رأسها حق العودة والحق في الكفاح ضد الاحتلال بكل الطرق الممكنة، والحق في تقرير المصير، هذا من الجانب الأول، ومن الجانب الثاني تقوم بفضح انتهاكات الكيان الصهيوني لهذه الحقوق بالكلمة والصورة وكافة الأساليب الممكنة، ويبقى الشرط الأهم هو ثبات المبدأ الأساسي وهو عدم تأثير المحاور السياسية المتصارعة في المنطقة والعالم على هذه المؤسسة وعلى عملها بأي شكل من الأشكال، وإنما يضمن ذلك بعدها عن الانحياز لأي طرف سوى رسالتها وهي الحق الفلسطيني كما هو مقرر في القوانين الدولية وقرارات الأمم المتحدة.

وإلى أن تظهر مؤسسة قوية للحديث عن الحق الفلسطيني لا تمل تقديم السردية الفلسطينية الحقيقية لكل شعوب العالم، ولا تمل الحديث عن الكفاح ضد الاحتلال بما في ذلك الكفاح المسلح، ولا تمل التأكيد بكل الطرق الممكنة على حق العودة وتقرير المصير، فإن جهودنا ستبقى موجات هابطة وصاعدة حسب الحدث بما لا يضمن ضغطا مستمرا ولا يحتفظ حتى بالمناصرين الذين يتعرضون لضغوط هائلة تصل إلى حد التهديد بقطع أرزاقهم، بل أعناقهم أحيانا.

الأربعاء، 1 نوفمبر 2023

بطل تحت القصف




                                         شعر: علي طه النوباني


يَتَوضَّأ مِن عَبَقِ الحَرفْ

بَطَلٌ يَتَحدّى ظُلمَ العالَمِ

تَحتَ القَصفْ

يَصرُخُ في وَجهِ سِياسيٍّ كَذابٍ

سَأحرِّرُ أرضي

أو أقضي مَرفوعَ الأنفْ

وَليبقَ أَخي مَدفوناً

في حُضنِ الأعداءِ

يًسافِرُ في ظُلُماتِ الكَهفْ

يَمضي مَع شُذاذ الآفاقِ

وَيطعنني مِن خَلفْ

ما أَنتَ وذا يا ابن أبي

كَيفَ سَتَذكُرُ سيرتكَ الأولى

صوتَ الناقةِ في عَطَشِ الصَّحراءِ

وَلونَ النارِ

وَحقَّ الأَهلِ

وَحَقَّ الضَّيفْ

كَيفَ سَتذكُرُ

إنْ أحرقْتَ ثِيابَ العِزَّةِ مَفتوناً بالغازي

 للمَرَّةِ أَلفْ

كيف سَتُشرِقُ إنْ كانتْ شَمسُك مُطفَأَةً

وَطَريقُكَ خَوفْ

ما أنتَ وذا يا ابنَ أَبي

كَيفَ تُسدِّدُ نحوي رَميكَ

بَينَ سِياطِ الظُّلمِ

وَكارثة النَّزفْ

لَنْ أهزَمَ

لكنْ

كم يؤلمني

أن أعرفَ مَن يُغمِدُ في ظَهري هذا السيفْ 

الأربعاء، 2 أغسطس 2023

عَظَّم اللهُ أجركم

 


قصة قصيرة بقلم: علي طه النوباني

لم يحلق عبد اللطيف ذقنه منذ أسبوعين، فبدا شكله غريباً على كل من يعرفه. كان قبل وفاة زوجته ورفيقة دربه ليلى إنسانا منظما؛ يحلق ذقنه وشاربه حلاقة إنجليزية كل يوم، ويتأنق في اللّباس ورشّ العِطر، وتصفيف ما تبقى من شعر رأسه الذي خالطه الكثير من البياضِ حتى أنه فكّر في صبغه ثم تراجع لما رأى منظر أصدقائه الذين صبغوا كيف أصبح متنافراً لا يتناسب مع ملامح وجوههم التي بدأت تغزوها التجاعيد!

تُوفّيت زوجة عبد اللطيف في حادث سير على الطريق السريع، فقضى أيام العزاء الثلاثة ذاهلا يمد يده للقادمين مردّدا عبارة: " شكر الله سعيكم" دون وَعيٍ؛ والأفكار تجول في عقله: "ليتها أصيبت بمرض، وقضت عاما آخر حتى أتجرع فكرة الفقد بشكل تدريجي. ولكن لا...، ربَّما أكونُ أنانيا بهذه الطريقة من التفكير، لا...".

مرت أيام العزاء ثقيلة عَليه، ثم قضى عشرة أيام في البيت دون أن يفعل شيئا يُذكر غير الردّ على بعض مكالمات الهاتف، والاستجابة لما يوضع على مَنشور إعلان الوفاة الذي وضعه على فيسبوك: عظم الله أجركم، شكر الله سعيكم، لايك، ....

اليوم هو اليوم العاشر بعد العزاء، صار من الواجب أن يستأنف عمله ويعود للحياة قدر الإمكان. بدأ بحلاقة ذقنه، ولما صار نصف ذقنه ونصف شاربه حليقين؛ سمع رنة الهاتف من رقم غريب، ولما فتح المكالمة سمع صوتا سلطويا يقول: أنت فلان؟ فقال: نعم فلان؛ فجاءه الردُّ: نقدر انشغالك وحزنك على وفاة زوجتك؛ لكنَّ أحدهم نشر تعليقا مسيئا على بوست التعزية الذي نشرته على فيسبوك، وعليك أن تزيل التعليق خلال يومين وإلا أصبحت شريكا في الجريمة!

جريمة!

 سقط الهاتف من يده في المغسلة، وحاول إنقاذه لكنّ الماء فعل فعله، فخرج إلى صالة البيت، ووقع نظره على هاتف زوجته الملقى على الطاولة منذ أن أعيد إليه بعد الحادث الذي توفيت فيه، فخرج من حسابها على فيسبوك، وحاول الدخول إلى حسابه، وتفاجأ أنه نسي كلمة المرور، وأنَّ فيسبوك نفسه يعرف أنَّ هذا الجهاز ليس جهازَه، وأن الدخول من جهاز مختلف لشخص نسي كلمة المرور يحتاج إلى معجزة.

ماذا يفعل؟!

ارتدى ملابسه على عجل وخرج قاصدا صديقه زيد الذي يمتلك خبرة في معالجة مثل هذه المسائل، وبمجرد أن وصل الشارع؛ لاحظ أنّ كلَّ من يراه يَكتم ضحكا شديدا، وعندما ركب التاكسي، نظر في المرآة فتذكر أنه حلق نصف شاربه ولحيته، ونسي النصف الآخر لأنه اكتشف أنه تورط في جريمة دون أن يدري!

كانَ سائقُ التاكسي يكتم ابتسامةً عريضة ويتململ؛ فنظر عبد اللطيف نحوه وقال: لقد عرفت الآن أني خرجت من البيت بنصف لحية ونصف شارب، ولولا مرآة السيارة لما تذكرت، وهي قصة طويلة لا يكفي مشوارنا القصير لسردها!

وقف التاكسي أمام بيت زيد، وخرج عبد اللطيف وهو يغطي على النصف الحليق من وجهه بيديه، طرق الباب، فخرج عليه زيد: أهلا عبد اللطيف، ماذا حدث لك يا رجل؟ ما هو الحدث الجلل الذي يجعلك تخرج من بيتك بهذه الهيئة؟

روى عبد اللطيف ما حدث معه لصديقه زيد، وهو يتحسس وجهه ونصف شاربه.

قال زيد: عظم الله أجركم

قال عبد اللطيف: شكر الله سعيكم!


السبت، 18 فبراير 2023

افتعال الصعود الدرامي في فيلم "الحارة"

 

بقلم: علي طه النوباني

يتسلق (علي) من سطح البناية على أنابيب المياه والمجاري في وضح النهار ليدخل غرفة لانا (ابنة الكوافيرة أسيل)، وعلى الرغم من خطورة ما يفعلانه في حيٍّ شعبي محافظ؛ فإنهما لا يقومان بإغلاق الستارة، والتي لا تحتاج إلى شيء سوى حركة بسيطة من يد أحدهما. ولكيلا يقول أحد: لا يوجد ستارة على الشباك؛ فإنه يمكن مراجعة المشهد الذي تؤنب فيه (أسيل) ابنتها لدى تلقيها فيديو الابتزاز ليرى الستارة بوضوح.

وبمناسبة الحديث عن إغلاق الستارة؛ ينبغي أن نتذكر أنه بعد أن ضرب عباسُ علياً؛ وأكد عليه ألا يقترب من (لانا)، يذهب (عليّ) إلى سطح العمارة التي تسكن فيها (لانا) ليعطيها جهاز هاتف نقال ويقنعها بالهرب، وفي تلك اللحظة يرى (عباس) من شباك شقته وهو يضع النقود في القاصة الحديدية، فتلمع في ذهن (علي) فكرة سرقة (عباس). وعباس أيضا هنا يقدم تسهيلات مجانية للمخرج بأن لا يغلق الستارة رغم أنه يخبئ أغلى شيء لديه وهو المال!

يتمكن (صبري) من تصوير (توتو- زوج أسيل ووالد لانا) وهو ينقل جثة (علي) على الرغم من أن مسرح الجريمة (بيت الدرج) ذو إضاءة خافتة، فضلا عن أن جدرانه بنيت من القرميد ذي الفتحات الصغيرة التي لا تسمح بالتصوير إلا إذا افترضنا أن صبري ملتصق على الجدار من الخارج ويمد الزوم في واحدة من الفتحات الضيقة!

وهكذا فإن (صبري) لم يفته حدث مفصلي في حياة أسرة (أسيل) و (توتو) في الليل أو النهار إلا وقام بتصويره، وكأنه يقضي أربعا وعشرين ساعة مقابل شقة أسيل!

 ولماذا شقة (أسيل) بالذات؟ والتي هي كوافيرة عادية جدا كما يبدو من صالونها ومن مكان شقتها وأثاث شقتها. بل إن (صبري) لا يفوته أن يصور مشهد تعرّي (لانا) الذي افتعلته أسيل لاستدراجه، وكأن أسيل تمتلك قدرة بارا سيكولوجية خارقة لدعوته في الوقت الذي تريده.

كيف يمكن ل (صبري) أن يصادف أربعة مشاهد هي الأبرز في حياة لانا وأسرتها؟ وكأن لديه جاسوسا في بيت أسيل! وهل يمكن لعمل درامي جاد أن يقبل هذا العدد الكبير من الصدف؟

لا نحتاج إلى خبرة كبيرة بالأسلحة النارية لنعرف أن حامل المسدس يكون في أقوى حالاته عند الوقوف على مسافة أمتار من الشخص الذي يريد السيطرة عليه، لكن (علي) يضع المسدس على أنف (عباس)؛ فيذعن له عباس على الرغم أن حركة صغيرة وسريعة من قدم عباس أو يده ستجعل (علي) يطلق في الهواء غالبا، وهو تصرف يناسب شخصية (عباس) أكثر من حالة الإذعان التي رأيناه عليها والتي أوصلته إلى أن مزق (علي) لسانه.

يضرب عليٌّ عباساً بكعب المسدس على رأسه؛ فيسقط مغشيا عليه، فيشد وثاقه، ثم يجبره على البوح بالرقم السري للقاصة الحديدية، ويأخذ النقود ويهرب، وعندما تأتي (هنادي) إلى عباس؛ تفك وثاقه بحركة سريعة، وكأنه مربوط بخيط عنكبوت، لقد قرر المخرج أن يحول (عباس) من وحش كاسر إلى نملة هكذا دون أي مبرر أو مقدمات كافية.

وعندما وصل التهديد الأول ل (أسيل) حول مشهد (لانا) مع (علي)، يتغافل الفيلم عن مسألة جوهرية في الثقافة الشعبية، وهي أن تتساءل (أسيل) كأم إلى أي مدى وصلت علاقتها مع (علي)، ثم تقرر أن توافق على خطبتها من شخص آخر دون أي إضاءة على هذا الجانب. هل يقصد المخرج-المؤلف بذلك أن (أسيل) قد لجأت إلى طبيب ليعالج أمر ابنتها؟ أم يقصد أن الأمر لم يصل إلى تلك الدرجة؟ أم يقصد أن أسيل لم تفكر في هذا على الإطلاق خلافا لأي أم تقليدية!

ثم تهرب (لانا) مع (علي)، ويدخلان إلى الشقة المفروشة، ويظهران وهما ينامان على سرير واحد في وضع رومنسي حيث يداعب كل منهما الآخر، وتنتقل الكاميرا نحو اللوحة التي فوق السرير في إيحاء واضح بأن العلاقة قد اكتملت كما اعتدنا في السينما العربية. ويحدث هذا دون أن يحدث أي شيء يوحي بأن زواجا قد حدث.

في اليوم التالي يصحو (علي) فيجد (لانا) تجمع أمتعتها، فيسألها لماذا؟ فتشير إلى المسدس والنقود.

فيجيبها: المال: تحويشة العمر، والمسدس للحماية.

وهي إجابة كافية، فمن الممكن لشخص رسب في الثانوية أن يعمل في شركة كبيرة ويجمع الكثير من المال، ومن المناسب لشخص يخطف فتاة هاربة من أهلها أن يحمل مسدسا.

تصر (لانا) على (علي) أن يقول لها (ماذا يخبئ عنها أيضا؟) بحجة أنه خبأ عنها أنه راسب في التوجيهي، فيعترف (علي) بكل سذاجة بأنه سرق المبلغ من شخص حيوان حسب وصفه. فلا مُبرِّرً الشكِّ كافٍ، ولا استجابة (علي) بهذه البساطة مقبولة، وإنما هي إرادة المخرج مرة أخرى لا إرادة السياق العام لطبيعة الشخوص والمسار الدرامي.

وعلى الرغم من أن (لانا) هاربة من أهلها، وقد نامت ليلة كاملة في حضن رجل غريب، فإن المخرج يشاء لها دون مبرر كافٍ أن تتخلى عن (علي) وتخرج بعناد شديد رغم توسلات (علي)، بل يتبين أنها قد طلبت سيارة أجرة قبل الحوار الذي دار بينهما (وربما طلب المخرج لها السيارة)، فتقفز فيها عائدة إلى أمها!

الأنكى من ذلك أن يتبعها (علي) على الفور حاملا حقيبة وضع فيها مبلغا من المال ليدلّي الحقيبة أمام شباك (لانا) قبل أن تصل (لانا) إلى غرفتها، مع علمنا بأن سبب عودة (لانا) وغضبها من (علي) هو النقود ذاتها! أيُّ توليفة هذه؟ عروس تهرب في (صباحيتها) لأنها اكتشفت أن عريسها راسب في الثانوية ولديه مسدس ومبلغ كبير من المال؟ فيتبعها زوجها ويدلي لها المال الذي تركته بسببه من شباك غرفتها!

مشهدان عبثيان متتاليان، يتبعهما قتل والدة لانا ل (علي) في بيت الدرج والتقاط (صبري) مشهد الفيديو من العمارة المقابلة ومن ثقوب القرميد!

لا تلبث بعد ذلك أن تظهر (لانا) في صالون والدتها وهي تضحك بملء شدقيها على نكتة سمجة قالتها زبونة، وكأن ما حدث معها كان شيئا بسيطا لا يستدعي يومين أو ثلاثة من الذهول في مجتمع لا يرحم.

عندما يعلم الحلاق (بهاء) صديق (علي) بمقتل (علي) يتتبع الشقة التي أقام فيها (علي) قبل مقتله، ويذهب إلى الفندق، فيطلب مفتاح الشقة بحجة أنه من طرف فلان، فيعطونه المفتاح، وهكذا بكل بساطة يدخل الشقة، ويأخذ أغراض (علي) بما فيها النقود والمسدس؟ لقد قبلنا من المخرج – المؤلف أن يتجاهل وجود الشرطة لكي يركز على قيم الحارة، ولكن ليس إلى هذه الدرجة، فقد تجاوز الواقع بشكل كوميدي، وبخاصة أنه أعلن في كل المواقع أنَّ أحداث الفيلم تدور في أحد الأحياء الشعبية في عمان.

لقد بدت التمثيليات التي نفذها (بهاء) سخيفة وكوميدية وبخاصة أنه نفذها بالمال الذي أخذه من غرفة (علي) بطريقة غرائبية، ولكن مشهد (بهاء) مع جد (علي) برَّر ذلك على نحو لا بأس به، فالهدف هو المحافظة على سمعة الأسرة، وتمكينها من العيش بشكل طبيعي في مجتمع يراقب كل فيه الآخر، ويسجل عليه كل شيء، وهي فكرة متصلة بالخيط الذي ينتظم القصة وهي الحارة.

لقد كان أداء الممثلين متميزا، كما أنَّ عين الكاميرا استطاعت أن ترصد مشاهد تمثل حارة شعبية في مدينة كبيرة بشكل جميل ومؤثر، غير أنَّ المخرج - المؤلف ما زال يظن أنَّ من حقه أن يتلاعب بالشخوص والأحداث كما يريد، متغافلا عن الافتراضات التي وضعها هو أصلا والتي لا يجوز تجاوزها إلا بمبرر يقبله المشاهد الجادُّ الذي لا يبحث عن التسلية وحسب، وإنما يبحث أيضا عن الترابط الدرامي والنمو المعقول للأحداث والشخصيات.