السبت، 1 يناير 2011

المنجل والمذراة


المنجل والمذراة



قصة : عبد الله الحناتلة

      
مِنجله المعلَّق على الجدار أشهى إليَّ من لوحات دافنشي ،مذراته الناحلة صاحبة المعاناة السحرية تعض على قمحها تحرُّقا إلى قبضته السمراء، ترفع أصابعها تضرعاً إلى الله بكل الأسماء أن يهب عشيقها الشفاء ،  تحتضنهما صدريته التي كانت تخشى عليه وخز السنابل ، الجدار ينبض بالحزن والصمت يلف الذكرياتِ المجتمعة باكيةً نادبة كما عجائزِ تغلبَ تندبُ كليباً ، مُمَددٌ لا تحركه إلا سعلتُه المنهكةُ ،ووصاياه التي لاتنفَد ممزوجةٌ بالخوف تغص مغرورِقةً بأنفاسٍ تمسح على شعرنا وخدودنا يتماً قادما .
      غصة دمعنا المستديرةُ إلى الوراء تعُبُّ في المكان، وعيونه الشاردة في فراغِ وسقف الغرفة تتجول وداعاً أخيراً وخوفاً مدلهماً .
      أفرُّ إلى الغابات ثم منها ، حفيفها حشرجةُ مصاب بالسل، قطرات نداها كحبات عرقه بعد أن تفارقه هجمةُ سعالٍ تنهك قواه ، السهول لا تمدُّ يدها لتجففَ عرقه، والنهار يحمل شمسه سريعاً خشية أن يصاب بالعدوى.
    صدى قولِهِ كلّ أجدادي عادوا  كأكياس قمح على ظهور خيولهم،  أثخنوا الموت قتلاً ،الموت الذي غير لون النسمات التي كانت تلقي الصباحات على قريتنا ، وأستذكرُ أنني منذ كنت طفلاً وأنا أُودِعُ شجرة الخروب وجعي مثل قمر بين يدي طفلٍ  أدثره حجارةً وحصى وبعض تراب خشية أن يسمعه الناس، لكني الآن سأترك كل هذا وأهاجر بعيداً إلى حيث الخُواء .
-      رأيت يا ولدي ذات ليلةٍ أني أحملك يوم الجمعة بعد الصلاة على باب المسجد في عربة كرابيج الحلب وأني لم أستبدل لك ثيابك كما يفعل المتسولون الأغنياء ولم أكذب على الناس الذين يجهلون حقيقتي ، لأول مرةٍ أصدُقُهم ، بين يديك دفاترك الصفر وكتبك المهترئة ... أسألهم: لله يا محسنين ،طالبٌ فقير طرده أستاذ كبير له سيارة ويرتدي نظارة  وأوس كما تعلمون وارث صمتي وحيائي وصدقي الخائر ، بحاجة إلى رسوم مدرسية ليكون موظفاً حسب المواصفات القياسية لموظفي الحكومة يجيد الأبجدية وإلصاق الطوابع وحفظ الأختام والخطابات الرسمية  تلك التي حفظها عن ظهر قلب منذ ...
-    قاطعته:
      منذ كانت تدخل بيتنا كما مرض الإيدز رعباً وعاراً ، تحمل أوامر قطعيّه: راجع غداً مركز كذا ، سنقطع عنك الماء والكهرباء، راجع مبنى البلدية  سنفتح الشارع من بيتك....راجع.......راجع.....
وبابتسامة علتها سعلة بحجم ما أسكنوه من غلٍّ وما نقعوه من وجع أكمل:
-      وكنت أقول امنحوه فرصة كي يستقيم معكم ويدرس في المدرسة وأنا على يقين أنه سيخرج منها دجاجةً تبيض ثم تصيح لكم لأخذ بيضها.
تفتقت عيون الجالسين وأعمامي غضباً ، وبأنينِ مبتسمٍ عنوةً وعناد فارسٍ  مكابرٍ على ألمه  ساخرٍ من سذاجة غضبهم تلك قال:
-    يا إخوان كنت قد أقسمت بأن هذا اللعين لن يضركم شيئاً ، وأني سأصبغ سحنته الجميلة تلك بسناج صاج أمِّه  ،وأني سأشِم وجنتيه بقسوة المراعي ولون المفاحم وكنت سأغيُّر اسمه... ما كنت لأقص شعره؛ سأثقب أذنيه وأضع بهما حلقاً كما العبيد، وقلت إن شئتم أبقيه بلا دِين كي لا يطمع أن يقيمَه في مالطا ،وبعت كل السلالم التي في بيتنا كي لا يحمل أحدها بالعرض ، ولم نربط بيتنا على الصرف الصحي خشية أن يلوث نقاء مخرجاتكم، وكنت أمنعه من مجالسة أبنائكم وقلت بأني سأجبره على وضع رأسه بين الرؤوس ، وأَولى به كوخ من ألواح المعدن عند عجوز لا يهزها الصوت ولا الشوق  أُزوجه منها حفاظاً على سلالتكم ، لكن وكما ترون يحول بيني وبين ذلك الآن مرضي هذا، والحياة لم تمهلني فهي ليست أوسع مما بين الرحى، كنت أرغب أن أجنبكم جمع صناديد عشائركم وانتظاره خلف الباب وتلطيخ شرف سيوفكم بدمه الخبث، والآن لا تُبقوا بجانب بيتنا حفنة تراب يقرأُ عليها(وجعلنا من بين أيديهم سداً ومن خلفهم سداً فأغشيناهم فهم لا يبصرون ).
       الأقحوان يتعفن الآن  على جبالنا الشم  صار عشاً للخنافس الطويلة ، تفوح رائحة أفواهها السافلة وشايةً ، السماء ستمطر دوداً وعناكبَ،  وأرضنا الخصبة ستجود بسنابل الذباب من كل حبةٍ سبع سنابل في كل سنبلةٍ ألف ألف ذبابةٍ ، الأبواب التي سهرت  تشبعنا ركلاً تبيت الآن ، تحتجب الشوارع التي هتكت حرمة بيوتنا ،الأرض تصمت لا تفرح ولا تغضب، تدفنُ نحيبنا وتطلق الوجع الصامت مرتجاً تفتشه أيدٍ باردة تبحث كيف نخبئ ُ ضجة الألم .
ما زالوا يتحلّقون حوله يسألون الله أن يهون عليهم ،مفسحين لي مكاناً عند رأسه  دنوت منه فهمس في أذني:
-      هؤلاء يظنون أن الغيوم تُزرع حنطة، ويُحفرُ فيها لهم مغائر، فهم يا ولدي أشدُّ مقاومة من الورق للانثناء ومن المناديل للـبلل ومن العجلات للتدحرج وما يعلمون أن شمسهم نصيب الطحالب وليلهم نصيب الخفافيش .
-      يا أبت هؤلاء دُمىً تصفق بخيط مشدودٍ إلى يد طفلٍ أبله ينكش أنفه تارةً وتارةً أخرى يحك ما تحت سرواله المتهدل بللاً .
      أمي ستُمضي العمر تقلِّب ألبوم عرسها بصوره الباهتة ، بشعرها المنفوش كدمية بلاستيكية، بأظافرها المخشرمة كمنشار،لكن دموعها الآن تتيه في تجاعيد خديها . تمسك بملابسه ترتبها ثم تعيد ترتيبها  تحتضن قميصاً له بكفيها، ثم إلى صدرها،تشمه.. دموعها توقظ عبق عرقه الغافي في ثنايا القميص  فيتأجج الفراق متراكماً طبقات من النواح المكبوت .
     ما زال هؤلاء يتوافدون مشحوذين بيقينهم المتواكل ، بجباههم البائسة التي ما ارتفعت إلا تملقاً ، بخطواتهم الرصينة هلعاً ، يأتون بملابسهم بعد الغسلة الأخيرة قبل أن تلدهم أمهاتهم ، ثيابهم لا تبلى فنتانة التاريخ تمدُّ في بقائها الزائف، يتهامسون أنه مصاب بالمرض( إيّاه)... الذي لا يبقي عمراً ولا يذر، سيترك هذه العائلة هباءً  منثوراً، أما مهووسه هذا فلا تدري إلى ماذا سيقوده عقله، وستبقى المسكينة  والبنات اللواتي كَفلق البدر  بعد أن ينفلت هذا اللعين كما فحل هائج يثير الأرض غير ذلول يسافر إلى حيث يلقى الناس فنحن حشرات بنظره ابن الكل...
وكأنه يقرأُ ما تخبئُ أعينهم وما تكنُّ صدورهم  من دعاء الاستعجال له بالنهاية.
-      يا أبو مصطفى  ...يا جماعة أعيدوه إلى رُشْدِه لا أريده أن يترك البلد بحثاً عن مكانٍ تُـنبت فيه الأرض زنابقاً ،وتحفه الأنهار والشمس والنهار، هذا يريد عالماً فيه صندوق بريد على باب منزله ، يترك فيه جوازه وأوراقه لتعمل له إقامة دون أن يستدعى أو يسأل .
-      عمّوه ترى الوجه الّي بتعرفه أحسن من الّي ما بتعرفه والحجر بمطرحه قنطار  والأرض بتظل على أهلها حنونة .
      تشدق أبو مصطفى الحكيم بهذه الكلمات ظناً منة أنه ينثر الحكم والدرر، وهو الذي تجده في كل المناسبات بدعوة وبدون دعوة على كل الأبواب يعرض خدماته ويحمل أوراقه التي كثيراً ما أكونُ موضوعَها  فلا بد من الرد عليه هذه المرة ، فَمَنْ كنت أصمت لأجله، لا خوف عليه بعد اليوم .
-      أتفخرون يا عماه أنكم حجارة في مطارحكم أو قناطير منها أتفرحون بحنان أرضكم المكتنزة بالشتائم والتلصص ، أمْنكُم يا عماه هلعٌ وفرحتكم  معرّاةٌ وأرضكم تتلوى لأبنائها كذئب فاحت منه رائحة عفن المغائر الرطبة .
-              طيب عموه هذول إخوانك مين بده يقوم فيهم وخواتك بدهن مراعاة .
يستفزني هذا يفلت لجام استخفافي وغضبي  وألمَ حقيقةٍ مرةٍ أخبئها
-      يا عماه كيف لي أن أرعاهم وسنديانكم ولزابكم لا ينبت إلا الهراوات التي تقصم ظهري  وتلّ برما يصطك مثقلاً بحديده القادر على تكبيل الجنس الأصفر، يا عماه ما عادت عصافيرنا تغرد، حتى الطيور المهاجرة وجدت طريقاً غير سمائكم ، وإن أرضكم التي تغازلونها لن تضاجعكم ولن ترطب شفاهها  بالنبيذ لكم وستستبدلكم بأقوام خير منكم، يخطئون فلا يستغفرون وستنشب أظافرها يوماً في أعناقكم وتلعنكم بألفاظ قمليّة وبَـقّـيّـِةٍ وجرذيّةٍ آسنةٍ ، أرعى مَنْ يا عماه؟! وكيف لي أن أرعى وهذه نوافذكم تحرسكم، تعشقكم وتتلذذ بانتشاء فروسيتكم  ،شوارعكم تنثر ظلمتها البارقة على أغطيتكم الثائرة وفرشكم المثابرة ،وقواكم تـتحصن خلف حطام هزائمكم ، والله يا عماه ما زلتم وما زالت غبار معارككم عذراء لم تشق، وسيوفكم ما زالت فرحة باقتراف الاستسلام  ،والسياط تتراكم على أكتافكم، ومعاصمكم المخضبة تكبيلاً فرحةٌ بصبرها العنيد .
-              يا عموه إحنا بنحمد الله على شم الهوا وشرب الميّ .
-      أية ماءٍ تلك وينابيعكم ملوثة بفضلات القرميد على التلال وسنابك الخيل في إسطبلات المعارك الخسيسة، وأي هواءٍ تشمونه وأبناؤكم راقدون على البلاط المتعفن برائحة الزنازن النابضة بدفقات بول العساكر غريبي الوجوه، وأي حمدٍ تسكنون إليه ووسائدكم التي كانت تغفو  على قصص السندباد والشاطر حسن تنتصب الآن على دقات الموبايلات الخائنة العابقة بأصوات الليل المخمورة  ، يا عماه دعوني فإني أخشى أن يؤخذ غيري بجريرتي أما أنتم فمثار حزني لأن حقولكم مسكونة بالهجر،  والقبَّرات التي كانت تستأمن حقولكم على أعشاشها ما عادت كذلك، تدفعها الآن حميتها وعرفانها بالجميل إلى أجدادكم أن تبني عليكم أعشاشاً تقيكم هذا الخوف القارس.          
 دقةٌ خشنةٌ على الباب كاد أن يتفسخ لها .
قال بكلمات جافة الريقِ تخرج إصراراً على الحياة وعيونه متعلقة بي.
-              افتح الباب يا أوس
أَطلَّت من الباب ثلةٌ من الوجوه الغريبة .
-              أين أبوك ؟
-              لماذا ؟
-              عليه مراجعتنا غدا ًودون تأخير وإلا .........
رمقته بنظرة مثقلة بالحقد والاحتقار تخللت أضلاعه وكأنه جرذ يقف عند أقدامي وراودتني نفسي بفعصه لولا إعزازي لحذائي .
-              والدي مريض ويحتضر .
-              لا بأس أحضرهُ أنت .
كعادتهم أغبياء لا يتقنون غير حمل الأوامر فقط ، سخرت منه لكن غالبتني الشفقة على حجم الغباء الذي يحمله فوق عنقه المُسمَّن، وحزنت جداً على من يقع تحت سطوة غبائه ،  أألطمه ، ولكن  ألا يكفينا أن الله لطمنا به وبأمثاله .
-              كيف أحضره لجنابكم .
-              ليس شأني، ذلك شأنك أنت.
-      ما رأيك أن تحضر سيارة إسعاف وطبيب  نحمله إلى المستشفى الذي  ألزمه بيته لنعطيه بعض المهدئات قبل مقابلة عطوفة مديرك .
بلهجةِ مَنْ ملّ الحياة:
-              من يا ولدي ؟
-              إنهم  يطلبونك غداً لمراجعتهم وفي حالتك هذه .
ارتفعت  بعض أصوات أفواه  قليلة شاجبةً مستنكرةً ...لا حول ولا قوة إلا بالله... في حين كانت عيون كثيرة ترقبها .
      تنفخت أوداجه وهو يحاول النهوض بهمة عصفور مقعد ، السعلة تقعده،  يتفتق حجابه الحاجز لشدة هجمتها ، عيناه جحظتا  يحاول قول شيء ما لكن السكرات الأخيرة تجثم على صدره ، نظر إليّ  أمسكت بيده الراعشة كما يد طفلٍ سكنه الجفاف ،ضممت أنفاسه المتسارعة  بطنه اللاهث كما بطن جنذب ، يتحدث والدي الآن بكل لغات الوداع ولا أحد يفهمه سواي، عيناه تحدثني أهدابهُ شفتاهُ  نبضه الغائر ومسحة الشيب في رأسه تروي كل القصص ، عيناه ينسلُّ منهما البريق ، الكلمات بالكاد تخرج بطيئة الحركة عديمة الصوت  توصيني نظراته المنكسرة ويده يفر منها دفئها وهي تقبض على يدي وكأنه يقبض على منجله وعصا مذراته ، أمال رأسه في حضني ودموعي الأولى تغرقه، يجاهد لقول كلمات يصر عليها  كلمات تفلتت من الموت تملصت من يدي عزرائيل خَرَجت قبيل النفس الأخير.
-  يا ولدي الله يسهل عليك .


اقرأ أيضاً على حبيبتنا

أنشودة العرب، شعر: علي طه النوباني  

بنما دولة بعيدة... ومُشوِّقة جدا  

الأزمة الاقتصادية، ومصالح الطبقات  

قراءة في رواية دموع فينيس لعلي طه النوباني  

عَهْدُ فلسطين - عهد التميمي  

كذبة نيسان  

الشوكُ جميلٌ أيضا  

«مدينة الثقافة الأردنية».. مراجعة التجربة لتعزيز الإيجابيات وتلافي السلبيات  

المشنقة  

البيطرة  

قصة نظرة  

عملية صغرى  

سيجارة على الرصيف  

بالشوكة والسكين والقلم  

نهاية التاريخ؟ مقالة فرانسيس فوكوياما  

الدولة العربية الإسلامية / الدولة والدين/ بحث في التاريخ والمفاهيم  

شهامة فارس  

جذورالحَنَق الإسلامي برنارد لويس  

صِدام الجهل : مقالة إدوارد سعيد  

صدام الحضارات؟ صموئيل هنتنغتون 

الفضائيات والشعر  

كأسٌ آخرُ من بيروت 

عمّان في الرواية العربية في الأردن": جهد أكاديمي ثري يثير تساؤلات 

تشكّل الذوات المستلبة  

مشهد القصة بين الريف والمدينة  

وحدة الوجدان والضمير  

«المنجل والمذراة».. استبطان الداخل  

دور المثقف والخطاب العام  

جرش: حديث الجبال والكروم  

في شرفة المعنى 

المثاقفة والمنهج في النقد الأدبي لإبراهيم خليل دعوة للمراجعة وتصحيح المسيرة  

!!صديق صهيوني  

عنترُ ودائرةُ النحس  

فجر المدينة  

مقامة الأعراب في زمن الخراب  

دورة تشرين 

الغرفُ العليا  

الصيف الأصفر  

حب الحياة: جاك لندن 

قصة ساعة كيت تشوبن 

قل نعم، قصة : توبايس وولف 

معزوفة الورد والكستناء  

منظومة القيم في مسلسل "شيخ العرب همام"  

ملامح الرؤية بين الواقعية النقدية والتأمّل  

الرؤية الفكرية في مسلسل «التغريبة الفلسطينية»  

"أساليب الشعريّة المعاصرة" لصلاح فضل - مثاقفة معقولة  

كهرباء في جسد الغابة  

جامعو الدوائر الصفراء  

صَبيَّةٌ من جدارا اسمُها حوران  

 



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق