الأحد، 5 يونيو 2022

الجُزء الثالث من قصة الأعرابي والإبل "مظفر النواب وفلسفة الشتائم"

 

بقلم: علي طه النوباني

تجنب أغلبية النقاد الخوض في شعر مظفر النواب لأسباب عديدة، منها كثرة الشتائم المقذعة في شعره على نحو يهدد الناقد بانقطاع مصدر رزقه إذا ما كتب عن شاعر هَجّاء كمظفر النوّاب، ومنها ندرة المصادر الأصلية لشاعر قضى حياته هاربا ومشردا بين البلدان، ولم يحتفظ بنظام صديق يطبع شعره ويروجه.

ولكن السبب الذي طرحه النقاد كثيرا هو ادعاء الأنفة عن الشتم، والتعالي عن لغة الشتائم الصريحة والمبطنة، وهم بذلك يتجاهلون أن غرض الهجاء في الشعر العربي كان أساسيا ومولِّدا للكثير من الدلالات العميقة، بل ومؤثرا مفصليا في الكثير من الأحداث السياسية والاجتماعية.

وإذا ما خضنا في فلسفة الشتم ونقيضه التأدب، فالسلطة مؤدبة غالبا -بهذا المقياس- لأنها قادرة على القتل والمسح من سجل الحياة، وليست بحاجة إلى الشتم؛ حالها في ذلك حال اللصوص الذين سرقوا إبل الأعرابي، وهو تأدب لعمري يفوق قلة الأدب بشاعة. أما الضعفاء فهم غير قادرين على شيء سوى الشتم، وهو مغامرة غير محمودة النتائج، وربما يدفعون حياتهم ثمنا لها كما حدث مع الشاعر الأيقونة "دعبل الخزاعي" الذي مات مقتولا.

ولكن هلا تأملنا كم من الشعراء الكبار أقذعوا في الهجاء؟

هل منعت نقائض جرير والفرزدق والأخطل الثقافة العربية من حفظ أشعارهم وتصنيفهم في مقدمة الشعراء الكبار.

وهل منعت قصائد الهجاء المرّ التي كتبها المتنبي من الخوض في عظمة شعره وروعة حكمته وعميق معناه.

وماذا عن ابن الرومي الذي قال عنه المرزباني "لا أعلم أنه مَدَحَ أحداً من رئيس أو مرؤوس إلا وعاد إليه فهجاه؛ ولذلك قلَّت فائدته من قول الشعر، وتحاماه الرؤساء". وعلى الرغم من ذلك، وَصَلَنا ديوان شعر ضخم لابن الرومي، واحتفى به نقاد الشعر، وأعطوه شيئا من حقه. وإذا أردتَ أن تتوسع في معرفة طريقة ابن الرومي في الهجاء، فاذهب إلى ديوانه، وشاهد بعينك أنواع الشتم التي تتخلل عظمة قدرته على التصوير، والتشكيل اللغوي والفني البديع.

وفي ذروة الحضارة العربية الإسلامية هجا دعبل الخزاعي عددا من الخلفاء ومنهم المعتصم، فلم يُلحَّ المعتصم في طلبه للقصاص عندما هرب دعبل إلى رؤوس الجبال، وقُدِّر لدعبل أن يموت بالسم على يد مالك بن طوق بعد أن هجاه بقوله:

إِنَّ اِبنَ طَوقٍ وَبَني تَغلِبٍ                     لَو قُتِّلوا أَو جُرِّحوا قَصرَه

لَم يَأخُذوا مِن دِيَةٍ دِرهَماً                 يَوماً وَلا مِن أَرشِهِم بَعرَه

دِمائُهُم لَيسَ لَها طالِبٌ                       مَطلولَةٌ مِثلَ دَمِ العُذرَه

وُجوهُهُم بيضٌ وَأَحسابُهُم                       سودٌ وَفي آذانِهِم صُفرَه

واللافت للنظر أن دعبلاً قد تعرض في شعره لخلفاء كثيرين إلا انَّ نهايته كانت على يدِ مَن كانَ أَقَلَّ مِنهم مكانةً وسلطاناً فمالك بن طوق هو أحد ولاة الرشيد والواثق والمتوكل. وعلى الرغم من ذلك كله فقد وصلنا جزء جيد من شعر دعبل الخزاعي (ونأسف أشد الأسف لما ضاع منه)، ولم يختلف النقاد على أهميته كشاعر من الطبقة الأولى.

ولكن ماذا يحدث؟ هل نسير إلى الوراء في كل شيء؟!

كان أهل اللغة والأدب في ذروة الحضارة العربية الإسلامية ينصفون المبدعين الكبار مهما أقذعوا في الهجاء، وحتى لو كان يهجو الخليفة نفسه، واليوم يقف الناقد متحدثا عن التأدُّب لا الأدب وكأن السلطة أحكمت وثاق كل شيء في حياتنا حتى لم نعد نميز بين ما هو سياسة وما هو فن.

لقد هجا دعبل المعتصم على ما نعرفه عن سيرة المعتصم فلم يترفع النقاد عن ذكر قيمة فنه الشعري بعيدا عن موقفهم الأخلاقي من فكرة الهجاء والشتم، وهجا مظفر النواب النظام السياسي العربي في عصر الهزائم والانهيار فذاب النقاد أخلاقاً وتجنبوه، بل إن بعضهم أسقط عليه مواقف اعتباطية نابعة من قربه من الشارع والناس، وكأن القرب من ضمير الشعوب جريمة، وهو أمر إن دلَّ على شيءٍ فإنما يدل على أن حضارتنا أصبح لها وجه واحد هو وجه السلطة، وهو وجه غير ولاد ولا يكفي للبقاء، وإني أحسب أننا قريبا سنجتمع مع الديناصورات في متاحف التاريخ ككائنات لم تحترم مبدعيها وثوارها الذين حاولوا أن يدبوا الحياة في اليباس، وديناميكية التغير في السكون القاتل، وحركية الجماهير في قماءة السلطة.

لقد نسي أولئك أن مظفرا لم يفعل شيئاً غريبا على حضارتنا، فقد عبر عما يناسب مقتضى الحال، بل لعلهُ تَحرّى الأَدب في كثير مما قاله أكثرَ مِنْ أولئك المُتَردِّدين المُتَزَيِّنينَ بالكَلامِ المُنمق الذين لا تعرف لهم وجها من ظهر.

وفي نهاية المطاف، الشعوب الحية هي التي تصنع معايير الفن، ويمكن لكل منا أن يتجاوز فذلكات نقاد السلطة الخائفين على لقمة عيشهم، ويرى مظفر النواب وهو ينطق بحال الجماهير المسحوقة قائلا:

وطني أنقذني

رائحةُ الجوع البَشَرِيِّ مُخيفة

وَطَني أَنقِذني

مِن مُدُنٍ سَرَقَتْ فَرَحي

أَنقِذني مِن مُدُنٍ يُصبِحُ فيها الناسُ

مَداخِنَ للخَوفِ وَللزِّبلِ

مُخيفَة

مِن مُدُنٍ تَرقُد في الماءِ الآسِنِ

كالجاموسِ الوَطَنِيِّ

وَتَجْتَرُّ الجيفة

أنقِذْني كَضَريحِ نَبيٍّ مَسروقْ

في هذي السّاعة في وطني

تَجتمعُ الاشعارُ كَعُشبِ النَّهرِ

وترضَعُ في غَفَواتِ البَرِّ

صِغارُ النّوقْ

يا وَطَني المَعروضُ كَنَجمةِ صُبح في السّوقْ

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق