السبت، 15 أغسطس 2020

الروح والأبديَّة في شعر عبد الله "أبو شميس"

 

بقلم: علي طه النوباني

عبد الله أبو شميس شاعر وباحث ومترجم من الأردن، صدر له ثلاث مجموعات شعرية منشورة، وقد مارس ترجمة الشعر عن الإنجليزية[i].

تذكرني مطالعة دواوين "أبو شميس" بالنوتة الموسيقية، فهنالك قرار وجواب يتردد بين القصيدة والقصيدة التي تليها: هذه غنائية حزينة تنطلق على سجيتها بإيقاعها الرصين، وتلك تجربة لصناعة بناء مختلف عن المألوف، وهذه تغوص في حياتنا اليومية وتناقضاتها، وتلك تجوب في غياهب الروح بغموضها وتجلياتها. وأمام هذا التنوع في التجربة المنبثقة من تواصل عميق مع الموروث، وشغل حثيث على جِدَّة التشكيل، وجدتني أختار أن أسبر عالم الروح كما بدا في تجربة أبي شميس الشعرية.

لطالما كان عالم الروح مهرباً للكثيرين من الحياة بتعقيداتها الكثيرة، ومتاعبها الجمَّة، وقد نسج أبو شميس عبر دواوينه المنشورة: " هذا تأويل رؤياي"، " الخطأ"، " الحوار بعد الأخير" – نسج تصوراً مركباً لعالم الروح أحاول عبر هذه العجالة أن أقتفي أثره وأقرأ مكوناته ومساره الذي يبدو غرائبياً وشفافا مثل مسيرة العربة التي خصص لها قصيدة في الديوان الأول؛ وأخرى في الديوان الثاني:

إذن يا صديقي ستمتلئ العربة

ونصبح أربعة

(مرحبا بكما..)

ندع الحبَّ يقتادنا عبر كل الدروب

إلى عتبة

تضيء على جبل الروح[ii]

تتداخل لدى "أبو شميس" العلاقات الإنسانية مع عالم الروح؛ فتارة يصبح الآخر جزءاً من سكينتنا؛ وولوجنا إلى عالم الروح، وتارة أخرى يكون جزءاً من احتراقنا وضياعنا. والمفارقة هنا أن شخصاً بعينه قد يكون في زمن منارة لروحنا؛ وفي زمن آخر عبئاً عليها، يثقل كاهلها، يجرها إلى دورة المتاعب اليومية للحياة، ويصنع القلق والاضطراب. وهذا هو الحال الذي آل إليه الحب في قصيدة (وداعيّة) حيث يقول:

-         أحبكَ

-         هل سأكرر ما قلته قبل عامين؟

-         "لا وقت للحب

في هذا الزمان..."

-         أحبكَ

-         فلنتزوج

-         كما شئت، ولنتدرجْ

على سلم الياسمين

...

-         أهذا هو الحبُّ

-         هذا هو الحبُّ

-         فلتعذريني[iii]

ومما يشوش عالمنا الروحيَّ أيضا اهتمامنا البالغ بعقيدة العدل، وأنَّ الأخطاء بالضرورة يجب أن تنسب لشخص ما، فتضطرب الروح وتنطفئ المحبة:

ربما حين ننجو (إذا ما نجونا)

وننظر للهاوية

خلفنا، سنفكر في أمرنا مرة ثانية

ربما نتحرر من عقدة العدلِ

ثمة أخطاءٌ في الكون لم يرتكبها أحد

وثمة ذنبٌ

بلا مذنب أو مذنبةْ[iv]

وفي الطريق إلى جبل الروح يشكو صديقُ الشاعر شعوره الدائم بالإحباط واليأس، فيشير له إلى قيم المحبة والخير والعطاء على أنها العلاج السحري لعلل الروح وأوجاعها المقيمة، ثم بعد حين يصافحه وعلى يديه ندى:

قلت:

يا صاحبي،

في الطريق إلى الروح كن جسدا!

-         كن بريئًا جريئًا

لا تؤمل من الناس شيئًا

ولا تحتقر أحدا

.

.

... قبل أن نبلغ الظلَّ

كان صديقي يصادق أشواكه

حين صافحته

كان ملء يديه ندى![v]

إنها رحلة نحو عالم الشفافية الغامضة حيث لا يرى الذاهبون تفاصيل هدفهم، ولا يعرفون تشكيلاً سببياً أو بنيوياً واضحاً لعالم الروح، لكنهم يتحمَّلون عناء الرحلة؛ يدفعهم الأمل بالوصول إلى النيرفانا /السكينة:

وسحابٌ بأعلى الجبل

لا يرى ظلَّه العابرون

ولكنهم يعبرون

إليه على فرس من أمل[vi]

فما هو السبب في هذا الرحيل المضني نحو عالم الروح، هل هي متاعب الحياة فقط، أم أزمة الإنسان الوجودية، وعيشه بين عالمين: عالمه اليومي حيث يشاهد صور الموجودين والموجودات حوله، والعالم الآخر حيث صور أولئك الناس الذين اختفوا من المشهد كلياً؟ فمنهم من كان حبيباً، ومنهم من كان جزءاً مهماً من المشهد لا يكتمل دونه، أين هم؟ هل من الممكن أن نعثر عليهم على جبل الروح، حيث لا يعود مهماً أبدا إن كانوا حقيقيين أم وهميين، والمهمُّ هو اللقاء حتى لو كان في عالم شفيف غامض غير واضح المعالم:

واقفاً

يتأمل صورته في البحيرة

بلّلها الماء والذكرياتُ

كلُّ من عبروا خلفه

نفثوا في ملامحه روحهمْ

ثمَّ ماتوا

.

.

نحن لا أحد

نحن لا أحد

في البحيرة..

أما البحيرة فهي الحياةُ...[vii]

ولكن "أبو شميس" في ديوانه الثالث[viii] يدخل عالم الروح من باب أكثر اتساعا وأشد تخييلا وجدلاً في قصيدة "الحوار بعد الأخير مع محمود درويش" التي أخذ منها الديوانُ عنوانَه، ولا يخفى أن "أبو شميس يتحاور في هذه القصيدة مع الجدارية التي يستحضر فيها درويش كل طاقاته الإبداعية الخلاقة ليصارع الموت، وينتصر عليه بالجَمال والطاقة التي تختزنها اللغة البشرية والتراث الأسطوري لبني البشر، والقدرات الفائقة لدرويش على التخيل وبناء التناغم.

  يطرح "أبو شميس"  بعض تفاصيل هذا العالم الغرائبي؛ ويبدأ ذلك بمفارقة، فسكان ذلك عالم الروح لا يعرفون النوم ولذلك يلقي الشاعر التحية على درويش: عم سهادًا، فيسأله درويش عن الساعة في عالمنا ويدرك أن الشاعر ساهر بعد منتصف الليل وهو يعاني السهاد أيضاً! فيلقي عليه التحية ذاتها: عم سهادًا! وربما يريد "أبو شميس"  أن يشير إلى أن الوقت هنا في عالمنا غير مهمٍ أيضاً فهو ساهد ولا يشعر بقيمة الوقت أيضاً.

ثمّ تتوالى صفات عالم الأبدية، فلا شاي ولا قهوة، ولا وقت ولا توقيت، ولا شوق ولا شهوة، غير أن " أبو شميس" يسأل درويش ماذا فعل في عيد ميلاده، فيجـيـب: اشتقت للاشتياق والاشتهاء، وهي مفارقة أخرى تُعَـبِّـر عن شكٍ في إمكانية تحقق النيرفانا أو السعادة الخالصة في جبل الروح/ أو عالم الأبدية. وفي ملمح آخر من ملامح الشك، تلمع في عيني درويش دمعة؛ ويشيح بوجهه نحو الخلد عندما يسأله "أبو شميس" عن الأصدقاء، فأية أبدية تلك التي ما زالت عامرة بمشاعر الفقد والاشتياق؟!

وأبعد من ذلك يتبين أن كل شيء في عالمنا أشدّ وضوحا من عالم الأبدية:

-         لو عدت، هل ستعيد الحكاية؟

-         لا بدَّ..

-         لم يتضح لك شيء هنا فتغيرها؟!

-         كل شيء هنالك كان أشدّ وضوحاً

-         علام إذن كان يختلف الفرقاء؟

-         لكي يتواصل نهر الهباء[ix]

وهكذا، فإنَّ عالم الأبدية/ الروح يبدو في هذه اللحظة فاترا، غامضاً، غير قادر على الفعل بل إنَّ واحدا ممن ملؤوا الدنيا إيقاعاً وتناغماً وتحكيكاً للأفكار وتجريداً للمعاني - درويش – فقد قدرته هناك على ضبط الوزن كما يقول في القصيدة، وبالمقابل فإن عالمنا عبثي رغم وضوحه، يختلف فيه الناس على ما يجب أن يتفقوا عليه لكي يتواصل نهر الهباء؛ فالحياة إذن هي نهر هباء يعمل دائما على طمس الحقائق رغم وضوحها، والأبدية غير قادرة على تحقيق السكينة والسعادة ضمن هذه الرؤية.

يَـسأل "أبو شميس" درويشاً عما إذا كان هنالك لغة أخرى في عالم الأبدية، فيجيب: " ربَّما.. ربَّما.. غير أنّي جديد هنا"، وعالم الأبدية بهذا عالم غير كلي المعرفة كما أمِلنا، وأبعد من ذلك فإنه يحتاج إلى تراكم المعارف يومًا بعد يوم مثل عالمنا تمامًا، وعلى الراحل إليه أن يتعلم لغته ويستكشف تفاصيله رغم أنه لا وقت في الأبدية! والأبدية بهذا تكون ابتلاءً أشدَّ ألمًا وقسوة من الحياة العادية.

وكما هو الحال في رسالة الغفران للمعري، يروي درويش لقاءاته مع الشعراء في عالم الأبدية، يُـذكّـر امرأ القيس ببعض شعره فيبكي الأخير زمنا ضيعه، ولكن أهم لقاء – بنظري- كان مع المتنبي إذ بدا حاله معبراً عن قوله:

تمتع من سـهادٍ أو رقادٍ                  ولا تأمل كرى تحت الرجامِ

فإنَّ لثالث الحالين معنى                 سوى معنى انتباهك والمنامِ[x]

الحالان عند المتنبي هما: الصحو/السهاد والنوم؛ وثالثهما هو الموت. والموت مختلف كلياً عن الصحو والنوم. وربما أراد أبو شميس أن يلج إلى هذا العالم الضبابي الذي يحتاج إلى قدرة كبيرة على التخيل والتحليق بعد أن كان المتنبي قد اكتفى بالإشارة إليه على أنه حالة مختلفة يصعب تخيلها. لكنَّ "أبو شميس" يشي بحالة رابعة هي حالة التجلي والوصول قبل الموت، نعم، إنها التماهي مع التناغم الكوني، والتسامي فوق المأساة الوجودية للإنسان مشيراً إلى طريقة جلال الدين الرومي الصوفية ورقصته الدائرية التي تحاول أن تجمع طاقة الكون في روح الإنسان متسائلا بعد ذلك إذا ما كان ممكناً أن يرى نفسه شمعة تغفو بحضن الشمعدان:

ها أنا أدخل في الرقصة

يا مولاي،

ها إني أسمي خطواتي الدائريات مدارا

وأسميني محارا

وأسميك جماني

آه يا مولاي، لو تنجح رقصاتك

في طيّ المسافات التي تمتد ما بيني وبيني

آه لو أصعد من غرغرة الناي

إلى شمس الأغاني

آه يا مولاي لو أني أراني

شمعة تغفو بحضن الشمعدانِ[xi]

وفي المقاطع الأخيرة من قصيدة " الحوار بعد الأخير مع محمود درويش" يوحي "أبو شميس" بأنه ينحاز للشعب الفلسطيني ولأطفال فلسطين في معركتهم المصيرية ملمِّحاً بذلك إلى حالات الحياد الإنساني التي تظهر أحيانا في شعر درويش مقتبساً قول درويش في قصيدة "حالة حصار":

أنا آخر الشعراء الذين

يؤرقهم ما يؤرق أعداءهم:

ربما كانت الأرض ضيقة

على الناس،

والآلهة

هنا تتجمع فينا تواريخ حمراء،

سوداء. لولا الخطايا لكان الكتاب

المقدس أصغر. لولا السراب لكانت

خطى الأنبياء على الرمل أقوى، وكان

الطريق إلى الله أقصر

فلتكمل الأبدية، أعمالها الأزلية..

وأجدني هنا أميل إلى الرؤية الدرويشية؛ فهي التي تجعل الضحية أرقى إنسانياً وحضارياً من الجاني، وهي على كل حال عند درويش ليست موقفاً سياسياً متصلباً؛ وإنما واحد من الوجوه التي يقلبها درويش ليقدم العمق الثقافي والحضاري والإنساني لبلادنا التي صهرت كلَّ غزاتها في أصالتها وعراقتها؛ إنه يقدم المكان الفلسطينيَّ لصيقاً بالحرف العربي وبالعمق الحضاري للإنسان الفلسطيني مؤكدا بذلك على عدالة القضية وحقوق ( أطفال غزة) دون أن يقول ذلك مباشرة.

تحليق "أبو شميس"  في عالم الروح/ الأبدية كثيراً ما ينتهي بالإشارة إلى مرارة الواقع، وهذه المرارة – ربما- هي التي تدفعنا أصلا إلى الرحيل إلى جبل الروح، نلتمس السكينة، ونهرب من دقات الساعة التي تحاصرنا، والمظالم التي تتجاوز حدّ الخطأ إلى مستوى الخطيئة كمظلمة أطفال غزة:

رأيت مراجيح أطفال غزة ترقص في جانب الله والشهداء

وأبصرت كوفية تتكون في شكل خارطة

تتكون في شكل زيتونة وتضيء السماء[xii]

وفي مكان آخر، يتفقد الذين رحلوا، وأصدقاء الطفولة الذين تشتتوا في الأرض، فيلوم أوطاناً تُبعثر ساكنيها في أصقاع الأرض ليشتعل حنيناً، ويدخل في الرقصة الدائرية علها تعيد له شيئًا من طاقة الروح:

أسامحكم يا بنيَّ

و " أرضى عليكم"

ولكنني

لا أسامح فيكم بلاداً

توزع أبناءها في المدائن

ذات الشمال وذات اليمين![xiii]

وفي قصيدة عمودية مُحمَّلةٍ بالانفعال والإيقاع القويّ، يشير فيها إلى واقعنا العربي بكل ما فيه من تشظٍ وانهيار:

... أنا العربيُّ في زمن السَّبايا            (غريب الوجه واليد واللسان)

أرى حولي وجوها في المرايا                كثيـرات تلـوح ولا أرانـي

أرى سقفا على شجري وسدا             على نهري، وغيري في مكاني[xiv]

وهكذا فإن تصورات "أبو شميس" في عالم الروح لم تكن مقتبسة بالكامل من أي من المذاهب التي نعرفها كالبوذية أو التصوف الإسلامي بمذاهبه المتعددة، وإنما هي بنتُ تشكيله هو لما بناه على هذه الرؤى والأفكار، وتنويعه عليها في سياق البحث الدائم عن العرفان والسكينة في محاولة للهرب من الشعور العميق بالظلم والضياع، وليس أدلَّ على ذلك من لجوئه إلى صيغة التمني في قوله:" آه يا مولاي لو تنجح رقصاتك.. في طيّ المسافات التي تمتدّ ما بيني وبيني"[xv]، فهو ليس واثقاً أنَّ السكينة التي يتوقعها تعادل حجم الاضطراب والظلم الذي يلقاه.

عبر هذه المقالة حاولت قراءة واحد من محاور تشكيل الرؤية عند "أبو شميس" ، لكن تجربة "أبو شميس" الشعرية ما زالت مفتوحة على آفاق واسعة للدراسة والبحث، فهنالك العديد من الزوايا التي يمكن دراستها في شعره الذي يمثل مساهمة مهمة في الحركة الشعرية العربية على صعيد البناء الشعري واللغة والصورة الشعرية، وغير ذلك.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 



[i] - عبد الله من مواليد عَمّان عام 1982، صدر له ثلاث مجموعات شعرية هي: (هذا تأويل رؤياي) 2006، (الخطأ) 2011، (الحوار بعد الأخير) 2016. وله مجموعة شعرية مخطوطة بعنوان:" شهود غزة"، كما صدرت له ترجمة شعرية لكتاب اللاندي من شعر المرأة الأفغانية في الحب والحرب" عام 2018 بالاشتراك مع د. حنان الجابري. وهو حائز على عدد من الجوائز الشعرية العربية أبرزها: جائزة الشارقة للإبداع العربي عام 2005، وجائزة الكاتب الشاب في فلسطين عام 2008، وجائزة فدوى طوقان الشعرية عام 2014، وجائزة محمود درويش الشعرية عام 2018.

 

[ii] - قصيدة بعنوان " العربة"، أبو شميس، عبد الله أمين، " هذا تأويل رؤياي"، حكومة الشارقة، دائرة الإعلام والثقافة، 2006، ص 27

[iii] ديوان الخطأ، ص 37.

[iv] قصيدة العربة 2، أبو شميس، عبد الله، عمان، ديوان " الخطأ"، دار الأهلية للنشر والتوزيع، 2011، ط1، ص21.

[vi] - ديوان " هذا تأويل رؤياي" ص 22

[vii] - ديوان الخطأ، ص 63 - 65

[viii] ديوان " الحوار بعد الأخير"، أبو شميس، عبد الله، بيروت، مؤسسة الانتشار العربي، 2016، ط1

[ix] ديوان " الحوار بعد الأخير"، ص 12

[x] - ديوان المتنبي، دار بيروت للطباعة والنشر، بيروت، 1983، ص 485

[xii] المرجع السابق ص 19

[xiii] المرجع السابق ص 24-25

[xiv] ديوان " هذا تأويل رؤياي" ص 85

[xv] ديوان " الحوار بعد الأخير"، ص 35-36

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق