بقلم الدكتور: شفيق طه النوباني
الراي - لن أكون بحاجة إلى طول تفسير إذا ما قلت إن تجربة علي النوباني
أقرب التجارب الأدبية إلي، فهو أخي الذي اقتربت منه كثيرا في طفولتي، فكان
الباب الذي ولجت منه إلى عالم الأدب والشعر، ولطالما رددت أبياتا من شعره
في بدايات عطائه الشعري:
«لَوْ كانَتْ عِندي مَقْدِرَةٌ
لخَلَقْتُ الضِّحْكَةَ في صَخَبِ الآلهْ لَرَسَمْتُ البَسْمَةَ يا كُلَّ البُؤَساءْ
وَخَلَقْتُ رَجاءْ».
تابعت هذه التجربة منذ بداياتها، فعايشت انفعالاتها وخبرت تحولاتها.
ولعلي لا أبالغ إن قلت إن اتخاذ دور الناقد حيال هذه التجربة سيأخذ جهدا
أكبر بحكم علاقتي الخاصة بالشاعر، فقد قال المتصوفة منذ زمن بعيد: «شدة
القرب حجاب». غير أنني في فعل الكتابة هذا سأحاول أن أبتعد محتفظا بحصيلتي
المعرفية الخاصة بهذه التجربة.
لم ينطلق علي النوباني في بداياته الشعرية من محاولات للاقتراب من
تيارات الحداثة التي كثيرا ما تجتذب الشباب في بداياتهم، فلا يقيمون
كتاباتهم على أسس متينة، بل بدت عنده ثقافة قارئ للشعر العربي القديم لم
يخف تأثره بالاتجاه الرومانسي في الشعر العربي الحديث:
«وَتَقولُ صاحِبَتي تُحَدِّث مَرَّةً/ وَتُداعِبُ القَلبَ بِأَجمَلِ بَسْمَةِ
اليَأْس يَبدو في حَديثِكَ مُترَعاً/ واليَأْسُ ضَعْفٌ قاتِلٌ بِسَجِيَّتي
القَلبُ يَضْحَكُ للحَياة حَقيقَة/ يا لَيتَ صاحِبَتي تُحيطُ حَقيقَتي
ما كانَتِ الأَحزان غايَةَ عاقلٍ/ لكِنَّها تَصْطادُ دونَ جَريرَةِ
ما اصطَدْتُ غِرْباناً أَلهَثُ خَلفَها/ لكِنَّها حَطَّتْ فَوقَ مَسيرتي».
والحق أن هذا الاتجاه الذي بدت فيه ملامح الشكل الدرامي، لم يفارق
الشاعر منذ ثمانينات القرن الماضي التي كُتبت فيها القصيدة التي أخذ منها
هذا المقطع، غير أن القصيدة العمودية تظهر في ما بعد من خلال نص أكثر
تماسكاً، ومن خلال طاقة عاطفية متدفقة تشير إلى شاعر لم يحاول أن يواري
تجربته الإنسانية:
«رَأَيْتُكَ وَاللَّيالي مُقْمِراتٌ وَوَجْهُكَ يا أَبي يُحْيي الشَّبابا
وَقُلتُ بِأَنَّني تَعِبٌ وَصَدري يُميطُ النّارَ عَنْ نارٍ عَذابا
وَكانَ الأُفقُ في وَجَعِ التَّجَلّي جَريحاً صامِتاً أَنِفَ العِتابا
عَلى دَرْبٍ تَهالَكَ مِن خُطانا وَمِنْ خَطَأٍ يُخاتِلُنا الصَّوابا».
لقد كمن الملمح الدرامي في هذا المقطع من القصيدة خلف وجه القصيدة
الغنائي، إذ حضرت صورة الأب بكل ما تحمله من حميمية وقدرة على الاحتواء دون
أن يظهر فيها سوى صوت عتاب يحاول أن يبعد الشاعر عن القلق، غير أن حوارا
خفيّا بدا في عمق النص، إذ ظهرت لغة الصواب والخطأ التي تبرز عادة في ظل
حضور أبوي حميم لا يخلو من سلطة القيم المطلقة.
لم يكن علي النوباني أول الشعراء الذين يشتكون من الدهر وصروفه، فالتراث العربي
زاخر بهذه الثيمة، غير أن شعر النوباني لم يتوقف عند هذا الملمح، بل إننا نجد أن الشاعر
تعامل مع الزمن بالانطلاق من أبعاد أخرى:
«يا أَمْسُ
أُناغيكَ أُناجِيكَ وَتظَلُّ نَشيداً للبَوحِ أُحِبُّ أَنا فيكَ
***
يا أَمْسُ
تَرَكْتُ مَتاعي
بَحْثاً عَنْكَ وَوُجودي وَضياعي
وكِدْتُ أُلاقيكَ».
خرج الشاعر في قصيدته «دائرة الزمن المسحور» من دائرة الشكوى، إذ تخلى
عن ذلك الشكل الخطي للزمن لينطلق إلى تشكيل أقرب إلى الحلم تختفي فيه
المعالم الفاصلة:
«يا أَمْسُ
تعالَ أَحُطُّ عَجينَكَ في تنّوري
وَأَجُزُّ قَميصَ الأَيامِ أَجْبُلُ وَجْهَكَ بالنّورِ
أُعرِّيها
لِتَكونَ كَما أَهوى
دائرةُ الزَّمَنِ المَسْحورِ».
لم يحصر علي النوباني تجربته في علاقة الذات بالزمن، فالناظر في شعره
سيجد أن الهمّ الجمعي يلح على الشاعر باستمرار منذ بدايات تجربته الشعرية،
فقصيدة «الجذام» وقصيدة «الحدود» اللتان كتبهما في ثمانينات القرن الماضي
تشيران إلى انشغال الشاعر بالهم القومي، إذ تفتت الوطن العربي وزرع فيه
الكيان الصهيوني.
لم يسعَ علي النوباني إلى الاستمرار في كتابة القصيدة التي تلتبس فيها
السياسة بالخطاب الشعري، فاتجه اتجاها واقعيا بدا النص الشعري فيه صادقا
تحققت من خلاله مقولة «الخاص والعام» الواقعية:
«بالأَمسِ رَتَقْتُ ثِيابي
تشرين ُالباردُ أَثلجَ ما كانَ دَفيئاً في آبِ
تَلسَعُنا نَسَماتُ البردِ وَبَقينا نَلهَثُ خَلفَ سَرابِ وَبُيوتُ النَّملِ اختبأتْ
(اتَّقِ شَرَّ البَردِ بِدينارَينْ نَبتاعُ تُراباً بترابِ وَنحبو في الوحلِ كَما الأَفعى
في هذا ثُقْبٌ تَحتَ الكَتِفِ الأَيْمَنِ وَتَزَوَّدْ بِسَرابيلِ الأَغرابِ
أَمّا ذاكَ فَزَوِّدهُ بِسَحَّابِ
وَتَنازَلْ عَن كِبرِكَ يا هذا
فَلَقَد جِئْتَ بِلا أَنيابِ)».
إن الصورة التي يرسمها الشاعر لبائع البضائع المستعملة صورة واقعية
بامتياز يفتقد إليها شعرنا المعاصر الذي يحظى عادة بالعناية النقدية، إذ
انصبّ اهتمام النقد على الملمح البياني للصورة. وفي هذا السياق يمكن
استذكار مقالات حسين مروة في كتابه «دراسات نقدية في ضوء المنهج الواقعي»،
إذ سعى إلى اختيار كلمات يمكن توجيهها توجيها واقعيا دون أن تمت للواقعية
بشيء إذا ما عوملت بالانطلاق من سياقها.
نبع علي النوباني في شعره من معاناته التي تلتقي مع معاناة الناس
وطبقاتهم المسحوقة دون محاولة منه لإقحام أدوات شعرية لا تتلاءم مع توجهه
في الكتابة، وهذا ما جعله أقدر على اختزال معاناة المجتمع من خلال التقاط
صور معبرة تجعل المتلقي أكثر انفعالا مع الصورة:
«الطِّفْلَةُ عَيْناها هارِبَتانْ
الصّفْعَةُ جاءَتْ مِثْل عُواء الذِّئْبِ وَأُخْرى مُغْرَمَةٌ بالدَّوَرانْ عَيْنٌ في خَدِّ الشَّمْسِ
لا تَدْري كَيْفَ تَخَطّاها اللَّونُ عَلى وَجْهٍ مَجْبولٍ بالحِرْمانْ
وَكَيْفَ تَجيءُ القُبْلَةُ مِنْ أُمٍّ مُتْرَفَةٍ وَطَعْمُ الدِّفْءِ وَرائِحَةُ العِطْرِ
وَأَبٍ مَصْقولِ الأَسْنانْ».
والمتأمل في قصائد الشاعر الذاتية سيلحظ أنها أميل إلى اليأس والشعور
بعبثية الحياة وانعدام القدرة على الوقوف في وجه الزمن، غير أن النظر في
قصائده التي يحمل فيها الهم الجمعي سيجد أنها كثيرا ما تتلمس شعاع نور في
آخر الطريق:
«الأَيدي فَوْقَ الأَيْدي في قُبَّةِ نُورٍ تحْييني
مَكْتوبٌ فَوقَ جَبينِ الثائِرِ سَطْرٌ لِأُفارِقَ وَجهَ الصَّنَمِ
الضّاحِكِ في قَلبِ المَأساةْ قَبَسٌ مِن نور الشَّمسِ يميتُ لُهاثي في
الموتِ حَياةْ».
لقد أخذ هذا التوجه الواقعي من علي النوباني مساحة كبيرة تستحق البحث والدراسة.
وقد تجلى هذا الاتجاه من خلال أشكال شعرية جديدة بدت فيها الانزياحات
المستلهمة من آفات العصر، فحاول أن يصور تناقضات الحالة الحضارية التي
تعيشها مجتمعاتنا في عصر هبطت فيه الحداثة دفعة واحدة فلا انخرطنا في
تشكيلاتها ولا حافظنا على تشكيلات مجتمعاتنا التقليدية:
«يُحْكى أَنَّ الأَشجارَ انزَعَجَتْ فَكَساها العادِمُ أَوْراقاً سَوداءْ
يُحْكى أَنَّ الأَنْفاسَ احتَجَبَتْ حَتّى ماتَ الطَعْمُ
وَفُزْنا بِدُوارِالبَحْرِ وَبِالصُّوَرِ البَلهاءْ».
والمتمعن في ديوانه الأخير «عندما نقمت علينا الريح» سيجد أن القصيدة
التي حملت عنوان هذا الديوان استمرار لتناول تجليات الحداثة المشوهة في
عالمنا العربي، بل إنها استمرار لقصيدة «العادم والكسالى» من خلال قالب
قصيدة النثر:
«قرب خيمتنا كان مزراب السماء يدمدم
بابنا كان مفتوحا للبنايات الشاهقة
وعيوننا كانت بيدرا للمعادن
المخدة صعقة كهربائية
شاشة الحاسوب ترحال مميت
النافذة ثقب يغوص في زيت محرك محروق».
ولعل من الملاحَظ أن الشاعر يتناول من خلال هذا النص مفردات الحداثة
من خلال توجه تجريبي تنازل فيه عن الشكل الإيقاعي لقصيدة التفعيلة، إذ اتسع
شكل قصيدة النثر للحداثة العربية بوصفها موضوعا. ولعل ما ينبغي أن أشير
إليه في هذا السياق أن الشاعر ما زال يسير بتؤدة في مجال التجريب، فقصيدته
الأخيرة «الحقل والأرانب» المنشورة في موقع مجلة الآداب البيروتية تشير إلى
نموذج رصين في هذا المجال، إذ قدّم الشاعر رؤيته من خلال قصيدة النثر دون
أن يبتعد عن أدوات الشعر العربي الحديث، حيث مثل الرمز قوام النص:
«أشعلتُ الحقلَ لأنَّ القمحَ يُطيلُ العمر
وَقَتلُتُ الأرانبَ لأنَّها مُتَحَمِّسةٌ جدّا
وَقَريباً سأجمع شغفي وأُلقيه في الظلام
فلستُ بحاجة إلى نَومٍ قصير
ولستُ بحاجةٍ إلى رحلةٍ مُعدَّةٍ مُسْبَقاً
أتلو فيها دُعاءَ السَّفر».
لا أدعي من خلال هذه المقالة أنني أحطت بتجربة علي النوباني بكليتها،
غير أنني حاولت وضعت يدي على أهم مفاصل هذه التجربة العريضة التي تستحق
دراسات تستجلي ما فيها من روافد للشعرية العربية في العصر الحديث.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق