الخميس، 30 ديسمبر 2010

أحلامُ الظلّ والنور


أحلامُ الظلّ والنور
                                            علي طه النوباني
     

                   
" عندما  كان الشيطانُ في الخامِسَةِ مِنْ عُمْرِهِ
 اعْتَدَلَ في سَريرِه رافِعاً رأسَهُ ، وطلبَ الكمان
 ـ لأوَّل مرَّةٍ في حياتِه ـ حيثُ عَزَفَ عَلَيْه 
كَأفْضَلِ عازفٍ محترف " .
الساعةُ الآن الرابعَةُ إلاّ خمسِ دقائق ، مَوْعِدُ صَديقي بعدَ خَمْسِ دقائق . . . سَكَبْتُ إبريقاً من الماءِ في الحـوضِ الصغير ؛ بينَما كنتُ أراقبُ الطَّريقَ . الجوريَّةُ بالأمسِ  كانَ عَليها وردَتان حمراوان رائعتان ، أحَدُهُمْ قَطَفَ واحِدَةً منهُما ، آهِ لَوْ أعرِفُهُ. . .  إذنْ لَقَطَعْتُ أنْفَهُ ،الياسـمينةُ  منذُ عامٍ أرْويها وَلَمْ تُزْهِرْ  ،شـارَفَ الرَّبيعُ  عَلى الانتِهاءِ وَلَمْ تُزْهِرْ ،ومِئاتٌ منْ بُذورِ القُرُنْفُلِ زَرَعْتُها في الحوْضِ ، وَلَمْ تَنْبُتْ ، رَوَيْتُها بالماءِ كلَّ يوم، ولم تنبت   
الرابعةُ وعشر دقائق لا بأس لو يَتَأخَّرُ نِصْفَ ساعة ، هذا هامشٌ معقول .
دَخَلْتُ إلى غرفتي مَضَتْ شُهورٌ وَلَمْ أقرأ  أيَّ شيءٍ ، في خَزانَتي عَدَدٌ لا بأسَ بِهِ من الكتب ، لم أقْرأها جَميعاً ، ولكنّي في شوقٍ لِقِراءَةِ مَجْموعَةٍ مِن القِصص القصيرة الَّتي قرأتُ كُلَّ ما لَديَّ منها ، وَوَعَدْتُ نَفْسي بشراء غيرها وتتالت الشهور قسط البنك  إيجار البيت فاتورة الماء الكهرباء إلخ إلخ
لستُ وَصَديقي نُخْلِفُ المَواعيدَ فَقَط ، قبلَ عاميِن وَقَفَ الرئيسُ الأمريكيُّ "كلينتون " أمامَ البرلمانِ على مِحوَر السينات : سَ سَنَرْفَعُ مُسْتَوى حياةِ الفردِ في هذه المنطقة سَنُعَوِّضُكُمْ عن سَنَواتِ الجوعِ والخوف سَيَتَذوَّقُ الجَميعُ ثِمارَ السَّلام
ما عَلينا
وَقَعَ نَظَري عَلى كِتابِ الغَرائبِ المُلقى على الطاولة : " عندما كانَ الشيطانُ في الخامسـة من عُمْرِهِ اعتدلَ في سَريرهِ رافِعاً رَأسَهُ ، وَطَلَبَ الكمانَ ـ لأوَّل مرَّةٍ في حَياتِه ـ حيثُ عَزَفَ عَليهِ كَأفْضَلِ عازفٍ مُحْتَرف " .
تُرى كيف يَكونُ عَزْفُهُ عندما يَبْلُغُ المائةَ من عُمْرهِ   أو حتّى الألف..؟!!
نَهَضْتُ عن الكرسيِّ ، ضَغَطْتُ على زرِّ التلفاز لم يَعْمَلْ ضَرَبْتُهُ بيدي اليُمنى باليسرى ظَهَرَتْ الصورةُ باهتةً بالأبْيَـضِ والأسْوَد ، أخَذَ المذيعُ يتحدَّثُ عن غاراتٍ تَشُنُّها إسرائيلُ على لُبنان ، مشاهدُ حيَّةٌ مِن الغاراتِ ، نساءٌ يَصْرُخْنَ أطفالٌ غارقونَ في الدِّماءِ ، رجالٌ يَبْكونَ أشلاءٌ في الشَّوارعِ عُيون أظافر أيدي خصلات شَعر أحلام حياة ضربتُ التلفاز بيساري بشدَّة اختفتْ صَلْعَةُ المذيع الباهتة
رَجَعْتُ إلى كِتابِ الغَرائبِ : 
"  نيقولا باغيني عازفٌ مشهور قيلَ أنَّ أوتار كمانه كانتْ مَصنوعَةً من أمْعاءِ  امرأةٍ قَتَلَها بِيَدَيْه ، وقدْ تَجَوَّلَ في أنحاء كثيرة من أوروبا ؛ يعزفُ الكمانَ فينشرُ الرعبَ في قلوبِ مستمعيه ، كانَ شَكْلُهُ غَريباً ؛ لَهُ وَجْهٌ أبيضُ كالطَّباشير ، وعيْنان حمراوانِ غائرتان وشَعْرٌ مُنْسَدِلٌ عَلى كَتِفيه وكانتْ ألحانُهُ شديدةَ التعقيد قلَّما استطاع المُحْتَرفونَ من العازفين أن يلعبوها ".
سَمِعْـتُ طرْقاً على الباب الساعةُ الآنَ الخامسةُ إلاّ ربعاً فركتُ عيني ونهضتُ فتحتُ البابَ : إنَّها زوجَتي وابني الصَّغير ذو العام والنصف ، كَرْكَرَ الصغيرُ وأقْبَلَ مُتَهادِياً كَأنَّما يَتَدَحْرَجُ رافِعاً يَدَهُ إليَّ مُبْتَسِماً ، قبَّلتُهُ باشتياق ضَرَبَني بيدِهِ الصغيرةِ عَلى خَدّي ، حاولْتُ أنْ أمْنَعَ نفْسي منْ تَذَكٌّر أطْفالِ لُبنان فانْحَرَفَتْ ذاكرتي إلى طفلٍ جاءَ مَعْ جَدَّتِهِ إلى مَكانِ عَمَلي قَبْلَ أيّام ، وَبِدونِ مُناسَـبَةٍ أشـارَت الجدَّةُ إلى الطـفلِ الَّذي رُبَّما كانَ في السادسة من عُمْره ، وقالـتْ : " استُشْهدَ أبوهُ في الحربِ وتَزَوَّجَتْ أمُّه يا لَقَسْوَتِها !!! " هكذا قالتْ
اسْتَرْخَيْتُ عَلى الكُرسيِّ ثانيةً ، ألقَيْتُ رَأسي إلى الوَراء ، انْسَكَبَتْ نُقْطَةُ عَرَقٍ عَلى أنْفي سَمِعْتُ أزيزاً   إنَّها ذُبابَة ، وفي أقلَّ من ثانِيَةٍ  كانتْ  تُحَرِّكُ قَوائمَها برَشاقةٍ عَلى أنْفي أخ خ خ خ . . .
ملعونٌ هذا الذُّباب وحدَه يَعْرِفُ مَواعيدَهُ جيِّداً ولا يُخْلِفُ أبداً يشمُّ رائحة الصيف رائحة العرق رائحة النَّتَن يَتسَرَّبُ من الثُّقوبِ الصَّغيرةِ من الشُّقوقِ الضيِّقةِ ويأتي ، وغَيْرُهُ لا يأتي من أوْسَع الأبواب
آ آ ه ه ه أشعرُ بالملل والنُّعاس ألقيتُ رأسي إلى الوراء
السـاعةُ الآنَ الثامنـةُ مَسـاءً ، لَقَدْ غَفَوْتُ طَويلاً ، كُنْتُ احْلُمُ عالَمٌ آخَر نفسُ مُستَوى النور في كلِّ مكان ،أقرب ما يكونُ إلى ليلةٍ مُقْمِرَةٍ ، عَلى أنَّني أعْتَقِدُ أنَّهُ لَوْ أتيحَ لي أنْ أنْظُرَ إلى السَّـماءِ لَما رَأيْتُ قَـمَراً ولا نُجـوماً ، الشَّـوارعُ خـاليةٌ تَماماً لا أذكرُ أنّي رَأيْتُ فيها سِوى ذلكَ الوجْه الملائكيّ الَّذي يَفيضُ حَناناً وحُبّاً قوامٌ مُتَوسِّط الطولِ ، مُكْتَنِزٌ في غيرِ  إفراط ، وشعرٌ مُسَرَّحٌ عَلى الطريقةِ الفرنسـية . عينانِ عميقتان  وَوَجْهٌ أبيضُ فيهِ حُمْرَةٌ أو رُبَّما سُـمْرَة
خاطَبَتْني بِصَوْتٍ مُخْمَليٍّ دافِئ :
" أما زلْتَ هُنا أيُّها المجنون منذُ زمنٍ طويلٍ وأنا أنْتَظِرُك نَذَرْتُ لَكَ مسحَةَ الحُزنِ الَّتي عَلى وجهي ، وَشُعْلَةَ الحُبِّ الَّتي في قلبي منذُ أنْ رَحَلْتُ إلى العالَمِ السفليّ ولمْ تأتِ يا لَكَ مِنْ صَبورٍ مُثابر ! … كمْ مرَّةٍ أغْناكَ مَنْظَرُ سُفْرَتِكَ البائسةِ عَنْ تَناوُلِ الطَّعام وكمْ أخْلَفَتْكَ الحَياةُ المواعيد جِئْتُ قَبْلَ قَليلٍ مِن العالمِ السفليّ ، كانَتْ يوريداس هانئةً في أحْضانِ حَبيبها وكانَتْ قيثارَتُهُ تُرْسِلُ أجْمَلَ الألحان إنّي أحِبُّكَ فاحمِل قيثارتك واتبَعْني احمل قيثارتك واتبعني احمل   ".
لا ما زالَ لديَّ الكثيرُ لأَفْعَلَهُ ما زال لديَّ الكَثيرُ لأَقولَهُ مِنْ أجْلِ الحَياة .. مِنْ أجْلِ كَرْكَرَةِ الأطْفال
ألقيْتُ رأسي إلى الوَراء سَقَطَتْ عَلى أنْفي نُقْطَةٌ مِن العَرَق وفي أقلَّ من ثانية ؛ كانَتْ ذُبابة تُحَرِّكُ قَوائمَها عَلى أنْفي برَشاقة ، وَدونَ أيِّ حِساب هَوَيْتُ بضربة ساحقةٍ عَلى أنْفي أخ خ خ خ
صَرَخَتْ زَوْجَتي مِن الغُرْفَةِ الأخْرى ما بالُك ؟
ـ لا لا شيء مُجَرَّدُ ذُبابة
                 
                     6/5/1996                                             

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق