قصة : علي طه النوباني
الشارع الرئيسيُّ في الإسكندرية يتكوَّن من
مسربين عريضين جداً، ربما يزيد عرضهما معاً عن ثلاثين متراً، وربما رأيتهما كذلك
لأن المرور من خلالهما في الازدحام الشديد يبدو بالغ الصعوبة وبخاصة لشخص مثلي
يسير على زوج من العكاكيز.
جئت إلى مصر لحضور دورة تدريبية، والتقيت في
الطائرة ببعض المشاركين في الدورة ذاتها، ومنهم فارس الذي كان مغرماً بالحديث عن
أمجاده وبطولاته ومواهبه الفذة في سائر المجالات، كان أيضا بالغ الاهتمام بهندامه
وبخاصة لمعان حذائه الذي كان يميزه عن الآخرين. وعلى الرغم من أن فارس لا يترك لك
فرصة للحديث عن أي شيء؛ لأنه يعرف كل شيء، فقد وجدت فرصة للتعبير عن بهجتي بكونهِ
رفيقاً من بلدي في غربة ستستمر خمسة وأربعين يوماً.
في الأسبوع الماضي تعرفت إلى جميع المشاركين،
وحتى الفتاة المغربية التي تأخر قدومها يومين لأسباب تتعلق بشركة الطيران، جَلَست
في يومها الأول في الجهة المقابلة لي على طاولة الطعام، وأخذت تتحدث معي وتطرح
عليَّ بعض الأسئلة، كانت لغتها صعبة جداً وكنت أحاول أن ألتقط المعنى من حركاتها
ومحاولاتها لتبسيط ألفاظها، وكنت أبتسم مجاملة عندما لا ينجح اجتهادي في الفهم.
عندما انتهينا من العشاء، نهضت لأعود لغرفتي،
وابتسمت لصفية قائلا: تصبحين على خير. اقترب مني فارس وهمس في أذني: دعك من هذه
البنت، فهي لي. قلت له مستغربا: عن أي بنت تتحدث؟ فقال: صفية، قلت له: مع أني لا
أفهم مغزى حديثك، إلا أنَّ كل ما بيني وبينها أنها جلست مقابلي لتناول العشاء
وبادرتني بالحديث والأسئلة. وهي ليست لي أصلاً لكي أعطيك إياها!
بدأتُ مع الفريق في عبور الشارع خلال
الازدحام الفظيع، وقد تأكَّد لي في تلك اللحظة أنّ الأولوية لدى كل الذكورِ في
الفريق هي أن يمسك بيد أنثى ليساعدها في قطع الشارع العريض حتى لو لم تكن بحاجة
إلى مساعدته! وعلى الرغم من أني الوحيد بينهم الذي يسير على عكازين.
شعرت لوهلة أنني غير محتاج لمساعدة أحد، وكنت
أنظر إلى الأرض لأعرف أين أضع عكازي متلهفاً للوصول إلى الجهة الأخرى من الشارع
حيث شاطئ البحر المتوسط الذي يبعث على التحليق في فضاء لامتناه من السحر والجنون.
وفجأة وبينما كنت أختلس النظر إلى السيارات
وهي تصدر أصواتها المزعجة، وفي الوقت نفسه، أتمعن في الإسفلت حيث أضع عكازي؛ رأيت
حذاءً أسود لامعاً ينحرف أمام مسار العكاز، ولوهلة شعرت أنني سأتعثر به وأسقط على
الأرض، لكنني تلاشيت الأمر بصعوبة بالغة وحرفت مساري مبتعداً عنه، ثم تتبَّعت
القدم التي ترتدي ذلك الحذاء لأعرف أنه حذاء فارس، وهو يقود واحدة من الصبايا
ممسكاً بيدها ناظراً للأعلى وغير منتبه إلى حذائه الأسود وهو يعترض طريقي.
أياً كان الأمر فقد قضينا يوماً جميلاً في
الإسكندرية، ومرت السنوات.
ومنذ ذلك اليوم وأنا أتحدث للأصدقاء عن شهامة
فارس!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق