علي طه النوباني
تغير الشكل العام للشاعر في القرن الماضي،
فبعد أن كان يمدح الخليفة ويتزلف له أصبح قائدا روحيا للثورة والتغيير، وها هو
البياتي مثلا يقضي حياته منافحا عن قيم الحرية والعدالة، ودرويش يقضي حياته أيضا
رمزا لقضية هزت الضمير الإنساني وتربعت على عرش قضايا حقوق الشعوب في تقرير مصيرها
وهي القضية الفلسطينية، ونزار قباني وهو يضع المرأة في مكانها اللائق بها في هرمية
الحياة التي أبعدتها عن مركز الفعل والتأثير بعد أن كانت ربة الحبِّ والجمال عشتار،
والكثير من الأمثلة على دور الشعر الثوري في العصر الحديث.
بقي الشعر طوال القرن الماضي شمساً ينظر
نحوها الجميع بما في ذلك النقاد، وفرساً يسحب وراءه الحضارة نحو فجر الكشف
والإبداع والتغيير إلى أن جاء عصر الفضائيات ليتآمر على الشعر والشعراء؛ ويعيدهم
إلى ذلك اليوم الذي وقفوا فيه أذلة أمام قصر الخليفة يستجدون بعض المال لكي يحصلوا
على قوت يومهم.
لقد تعاملت الفضائيات على نحو مهين مع الشعر
والشعراء، ففي الوقت الذي منحت فيه الكثير من الفضائيات أكثر من تسعين بالمئة من
وقتها لمطربي الدرجة العاشرة الذين أفسدوا الذوق العام، ودمروا علاقة الإنسان مع
الغناء والموسيقى؛ قامت فضائيات أخرى بتنظيم مسابقات سخيفة اعتمدت منهجا ساذجاً في
التعاطي مع الشعر، فجعلت من الشعراء طوابير تقف أمام نقاد مأجورين، حيث يحددون
عنوانا ساذجا للشاعر ليُكتب عنه ثم يَختارون من يستطيع أن يرقص قصيدة كما وصف ذلك
نزار قباني في نبوءة له عن العصر الرديء القادم.
نعم المطلوب في هذه المسابقات هو أن ترقص
قصيدة لأن الطبيعة الاستعراضية لهذه البرامج والتي تحتاج إلى جمهور يدلي بأصواته
عبر الرسائل القصيرة تفرض اختيار عناصر أخرى لا علاقة لها بالشعر، كشكل الشاعر،
وطريقة أدائه، وحتى ملابسه وربما لون عيونه وغير ذلك.
إنني لا أبرىء أحدا شارك في تنظيم مثل هذه
المهازل التي عمدت عن سبق الإصرار والترصد إلى إخراج الشعر والشعراء من دائرة
الفعل إلى مهزلة التبعية، ومن دائرة الثورة والتغيير إلى حالة اللاثقة والشعور
بالدونية والضعف، وما ذلك إلا جزء من التردي العام الذي دخلت فيه ثقافتنا العربية
نتيجة فوضى غير خلاقة قدمت الغث وأخرت السمين ورفعت من شأن الربح الرخيص على حساب
الإنجاز الحضاري التراكمي المحترم.
وإلا ما الذي منع الفضائيات من تقديم التجارب
الشعرية المنوعة المنتشرة على مدى ساحتنا العربية بطريقة تحترم خصائص كل منها
وتستبعد الغث دون ازدراء وتعلي من شأن السمين دون استعراض رخيص.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق