الخميس، 17 يناير 2013

وحدة الوجدان والضمير

د.جهاد المرازيق
 ينتمي الشاعر علي طه النوباني إلى جيل التسعينات، وقد صدرت له أربع مجموعات شعرية هي وفق ترتيبها الزمني: «جنازة حمورابي الأخيرة»، «دورة تشرين»، «الدرب والحكايات» و»شارع آخر».
تؤشر هذه المجموعات مجتمعةً إلى تجربة شعرية جمالية عميقة، وقد كان لموقف الشاعر الفكري والوجداني، وحساسية الضمير الإنساني، الأثر الأبرز في نضوج هذه التجربة.
ومن خلال تتبع مجموعات النوباني الشعرية، سيبدو أثر الثيمات المشار إليها في العنوان جليا، وسيتبين القارئ اهتمامات النوباني الوجدانية والإنسانية، وستظهر مواقفه وتوجهاته من قضايا الإنسان المعاصر؛ فهو ملتزم بتوصيل رسالته تجاه ما يعاني الإنسان البسيط من فقر وكبت وظلم وتهميش وانسحاق، أمام قوى خارجة عن دائرة معارفه وإرادته مرّة، فلا يجد تفسيرا لمواقفها من هذا الإنسان، وفي مرة ثانية هي قوى يعرفها ويخالطها، وهي أقرب ما تكون لكينونته، لكنها تقف دائما في وجه طموحاته وانطلاقاته، تقذف به إلى الهاوية، وترجعه بلا أمل في الوصول إلى أول الطريق.
يولي النوباني كل الاهتمام لقضايا الإنسان، وهمومه بشتى تجلياتها؛ الاقتصادية، والاجتماعية والعاطفية، زيادة على همومه الوجدانية وتساؤلاته تجاه ما يحيط به وما يشاهده، أو يحس به من فجائع ومفارقات، كلها تصب في اتجاه معاكس لما يتمناه، ولما يطمح إليه ولما تهفو إليه روحه ويجنح إليه خياله، فنراه في مجموعته الأولى «جنازة حمورابي الأخيرة» التي صدرت عن دار قدسية في إربد (1993)، كأنه يجري حوارا مطولا بين الأمنيات التي أتعبته وآلمته، وبين واقع ممضّ ومؤلم بل أشد إيلاما؛ فهو في كلتا الحالتين ضحيّة. وفي كلتاهما يعيش على واقع الألم والتشكي والفجيعة:
«أما وقد مات حمورابي فإني
ألقي قنبلة الغاز على أفواه الجياع
تتلامع الأدمع في ليل الضياع
فتظنها طبائع الكون الجديدة
وتحيطها ألقاب تهويل عديدة
وتضيع ما بين الكتب
أقصوصة تُحكى لطفل كي ينام
ليحيط بالتابوت شيء من ظلام
ويسير نمرود سعيداً في الجنازة
يحرق مقبرة الملوك
يقطع رأس كلِّ قاض عادل
ويصفق النمرود من فرط الخشوع
وضمير العالم يطعن في الضلوع».
إنها حوارية بكائية يشكل الوجدان فيها والضمير الذي يخز صاحبه دائماً عنصرَين لا انفكاك بينهما، فهناك ضحية مقابل نمرود، وهنالك طاعن ومطعون، وهنالك تفجع وفجيعة، ومصفّق لا يأبه لآلام الإنسان.
ويبقى «النوباني» (الشاعر) يعيش تلك الهموم، ويوغل في المسير عبر كهوف الهم الإنساني وسراديبه، باحثا ربما عن شمعة أو شعاع في آخر النفق، وما نراه إلا وقد وصل إلى حافة اليأس، حين اقتنع بعبثية بحثه فقال:
«عبثاً تحاول يا حبيبي
فربيعنا
كخريفنا
ما دام أعداء الناس ناس
الكأس مترعة تروي أرضنا
لكننا
نتنازع الأشياء نسكب كأسنا
وتخضّب التاريخَ أنهارُ الدماء
المجرمون يدوسون الأبرياء
باسم البطولة والفداء».
نعم، إن المتلقي لأشعار النوباني سيجد أن مجموعاته عادة ما يكون محورها هو هذا الهم الإنساني المشترك، الذي يعيشه كل إنسان ذو إحساس ورؤية، يأخذه للبحث عما يعانيه هذا الإنسان، لا، بل نستطيع القول إن كل قصيدة في كل مجموعة لا بد لها من تعالُقٍ مع هَمٍّ إنساني، أو مع الضمير الذي سيبقى يحاور هذا الكائن وربما يعذبه إلى ما لا نهاية.
فها هو في مجموعته الثانية «دورة تشرين»، يأخذنا مرة تلو الأخرى لمحاورة المرابين والسراق والقساة، فيما الإنسان الشاعر يقف عاجزا بلا حول ولا طول:
«ضوضاء السوق مروعة
وضواريها سرقوا أسيافي وحرابي
أعزل في معركة دامية
ينعق فيها ألف غراب
ونسيمُكَ يا تشرين شراع
مزّقَني بين ذهاب وإياب
تشرين،
أتيتَ وما في الجعبة سهم
والتعويذةُ ينشدها صوت مرابي
ومجانينُ الفاقةِ أسكرهم
في ليلِ البؤس نباحُ كلاب
تشرين،
إذا عدتَ تعال دفيئا
فالموقدُ مكسور في سردابي
وجيوشُ الكفر مخبأة عنك
بألفِ حجاب وحجاب».
وها هو الشاعر من جانب آخر، يعبّر عن معاناة الإنسان الوجودية حين أثار كثيرا من الأسئلة التي تؤثر في مسيرة الإنسان بالمطلق، وهي لا تخص إنسانا ينتمي لثقافة أو أمة بعينها، بمعنى أنها أسئلة عامة تشتمل على موقف هذا الإنسان من الوجود وما يكتنفه من أسرار، فيقول:
«هابيل صديقي
يسكن بين جراحه
الصمت يعذبه
يتمنّى أن يحكي شيئا
لكن..
مَن يسمعه؟
هابيل صديقي
محكوم بالإعدام
رشقاً بالكلمات
يترنّح كي يحكي
ويحاول أن يبكي
حتى مات».
ولعل الصدق والعفوية في المشاعر وطرح الرؤية لدى النوباني، جعلت منه شاعرا قريبا من المتلقي، فلم يعد القارئ يجد حاجزا أو مسافة تفصله عن النص، لا بل إنه يلتحم بالنَّص، وربما ردّد كلمات النوباني عند اختلائه بنفسه:
«يا رب الفقراء
جئنا وخرجنا
الباب إلى الباب
لا صحب ولا أحباب
من كل شبابيك الغرف العليا
شتمٌ وسباب
ماذا نفعل والأرض خراب!».
المتتبع لنتاج النوباني الشعري، يرى الشاعرَ يُكثر الحديث في مواضيع إنسانية ووجدانية تؤرقه، حتى أضحت هذه الموضوعات (الثيمات) دالّة، أو هي «سمة» يتميز بها:
«المرتحلون على أبواب مدينتنا
ضربوا خيماً سوداء
وحلّوا
ذبحوا قربانا
طفلاً أوشك يحكي
رقصوا حول النار
فمات الزهر
وجف الطلُّ».
ولعل المجموعة الرابعة للنوباني المسمّاة «شارع آخر»، جاءت لتؤكد أنه شاعر يسير على طريق الالتزام (بالمعنى الثقافي للكلمة)، وينسجم مع ذاته بشكل تام، وذلك من خلال تناوله موضوعاتهِ الشعرية وتكريس وتعميق أسئلته التي سيبقى يحاول الإجابة عنها. فعلى صفحات هذه المجموعة أعاد النوباني تشكيل تجربته الإبداعية؛ فبدأ بقصيدة «الأرض حبيبتنا»:
«الأرض حبيبتنا
والسمك الجائع في بحر الظلمات
مزيج من فزع الأشجار
ومن غربتنا
وإذا ما احتضَنَتْنَا يوما
فلأن النجمات تضاجع أعيننا».
للوهلة الأولى، يبدو الشاعر منسجما مع محيطه، من خلال وصفه الأرضَ بأنها حبيبة، إلا أن المتمعن في النص يدرك تماما انتقام الأرض من الشاعر أخيرا بسبب الحقد، أو» الغيرة»، كون عينَيّ الشاعر تطالعان النجوم، أو تسامرانها.
ولم يكن السمك في بحر الظلمات إلا مزيجا من فزع الأشجار، ومن غربة الشاعر، ونراه عندما يغنّي للحرية في قصيدته «رسالة إلى الحرية» لا يخرج من معطفه، ومحاوراته الصاخبة الحزينة المدماة دائما:
«آنستي الغجرية
كل الأشياء هنا تقمعني
لغتي
ولساني الملفوح بنار الغربة
وأغانِيّ المسكونة بالخوف
أجمعني
وأريد أبوح
فتعصف من حولي شاراتُ التخدير
وأكتم أنفاسي
مثل نهارٍ مذبوح».
إنها مثل بقية حواريات الشاعر؛ دائما هنالك متربص، وهنالك مهزوم، وفي أغلب الأحايين فالإنسان الذي يمثله صوت الشاعر في القصيدة هو المأزوم، وهو المهزوم.
أما عندما أطل القمر في خاتمة المجموعة مع قصيدة «قمر المستحيل»، فلقد تبدلت وظيفة القمر لدى شاعرنا، فلم يعد رمزا للجمال والحقيقة، ولم يعد وسيلةَ الشاعر يستنير بضيائه، ويهتدي بنوره للوصول للمحبوبة. كيف لا، ونحن نرى النوباني وقد صَيّرَ بهاء المحبوبة سبباً في ضياع الطريق وضياع الدليل:
«لأن عيونكِ حقل
على ربوة
في قمر المستحيل
شربتُ الموانئ بحثا
وجبتُ المسالكَ شوقا
ولما أطلّ بهاؤك
ضاعَ الطريق
وضاعَ الدليل».
أخلصَ النوباني لمنهجه في كتابة القصيدة، وظلّ متوقد الضمير، مشتعل الوجدان، متتبعاً للهَمّ الإنساني العام، وهذه «الثيمات» تتخلل جميع قصائده، وهي بمثابة القناديل المدلاّة في سماء تجربته الشعرية، حتى لا يكاد المرء يلج إلى عالم الشاعر إلا من خلالها

اقرأ أيضاً على حبيبتنا

أنشودة العرب، شعر: علي طه النوباني  

بنما دولة بعيدة... ومُشوِّقة جدا  

الأزمة الاقتصادية، ومصالح الطبقات  

قراءة في رواية دموع فينيس لعلي طه النوباني  

عَهْدُ فلسطين - عهد التميمي  

كذبة نيسان  

الشوكُ جميلٌ أيضا  

«مدينة الثقافة الأردنية».. مراجعة التجربة لتعزيز الإيجابيات وتلافي السلبيات  

المشنقة  

البيطرة  

قصة نظرة  

عملية صغرى  

سيجارة على الرصيف  

بالشوكة والسكين والقلم  

نهاية التاريخ؟ مقالة فرانسيس فوكوياما  

الدولة العربية الإسلامية / الدولة والدين/ بحث في التاريخ والمفاهيم  

شهامة فارس  

جذورالحَنَق الإسلامي برنارد لويس  

صِدام الجهل : مقالة إدوارد سعيد  

صدام الحضارات؟ صموئيل هنتنغتون 

الفضائيات والشعر  

كأسٌ آخرُ من بيروت 

عمّان في الرواية العربية في الأردن": جهد أكاديمي ثري يثير تساؤلات 

تشكّل الذوات المستلبة  

مشهد القصة بين الريف والمدينة  

وحدة الوجدان والضمير  

«المنجل والمذراة».. استبطان الداخل  

دور المثقف والخطاب العام  

جرش: حديث الجبال والكروم  

في شرفة المعنى 

المثاقفة والمنهج في النقد الأدبي لإبراهيم خليل دعوة للمراجعة وتصحيح المسيرة  

!!صديق صهيوني  

عنترُ ودائرةُ النحس  

فجر المدينة  

مقامة الأعراب في زمن الخراب  

دورة تشرين 

الغرفُ العليا  

الصيف الأصفر  

حب الحياة: جاك لندن 

قصة ساعة كيت تشوبن 

قل نعم، قصة : توبايس وولف 

معزوفة الورد والكستناء  

منظومة القيم في مسلسل "شيخ العرب همام"  

ملامح الرؤية بين الواقعية النقدية والتأمّل  

الرؤية الفكرية في مسلسل «التغريبة الفلسطينية»  

"أساليب الشعريّة المعاصرة" لصلاح فضل - مثاقفة معقولة  

كهرباء في جسد الغابة  

جامعو الدوائر الصفراء  

صَبيَّةٌ من جدارا اسمُها حوران  

 

.

هناك تعليق واحد: