الخميس، 17 يناير 2013

«المنجل والمذراة».. استبطان الداخل

سليم النجار - البحث عن الشرعية هو القوام الذي تتجلى فيه مجمل الصراعات على الصعيد الاجتماعي، وهي شرعية تفصح عنها الممارسة المباشرة تارة، والنسق السائد في الكثير من الأحيان تارة أخرى، ومن واقع الشد والجذب يفصح التاريخ الاجتماعي عن إبرازٍ للتداخلات التي تفرضها مقومات البحث عن القيمة الاجتماعية والمكانة داخل المنظومة الاجتماعية، بين العلمي بماديته ومنطلق تفاعله المباشر مع الواقع، والسردي بأخلاقياته وقيمه بوصفه الموجّه والمقنن والمحدد للفعل الاجتماعي.
إنها المواجهة الساعية نحو التمكن والسيطرة على إنتاج السمات الفارقة لمضمون المعرفة. ثمة هناك السلطة الاجتماعية المطلقة في مجموعة «المنجل والمذراة» للقاص عبد الله الحناتلة، والتبعية التي تبدّى بها التراثي لصالح فكرة الثقافة الشعبية، والمعرفة العلمية الواسعة التي حصلت عليها مجمل الحضارات الإنسانية، إن كان على مستوى الهندسة أو الكمياء أو علوم الرياضيات أو الأرقام أو الفلك أو الطب، إلا أن الموجّه الروحي والأخلاقي كان يمثل الحضور الأهم والأساسي في المجموعة، فيما بقي العلمي يحتل مكانة التابع.
في أي زاوية يمكن البحث في دور الثقافة؟ هل بوصفها فاعلاً أكبر، أو في التوقف عند وصفها بـ»رجع صدى» للقيم المعتقدات والأعراف السائدة؟
من المؤكد أن الوشيجة القوية الراسخة، تبقى حاضرة بين منظومة القيم (المؤسسة الاجتماعية) والبنية الثقافية، والإشكال الراهن في مجمل الطروحات التي تحاول نظرية الثقافة تقديمها، تتمثل في محاولة تجاوز منظومة القيم والمعتقدات، والتركيز على أحادية النظرة حول الثابت والمتحول، والإبقاء على الفصل بين الحقائق الثقافية والقيم الاجتماعية.
من هنا يظهر أن النص القصصي في «المنجل والمذراة»، وتحديداً في قصة «دجاجة من ذهب»، تتبدى فيه مجموعة من الرؤى والتصورات حول فاعلية النظرية الثقافية التي يحاول بعضهم حصرها في النتاج الفكري، ويعمد الآخرون إلى تركيزها في التحديث وتوسيع الثقافة، بينما يسعى الحناتلة إلى حصرها في الإبداع الإنساني.
«بهذه الكلمات بدأت أمي حديثها للنسوة، وقالت إن سهرتها في تلك الليلة تجاوزت منتصف الليل المدلهمّ، وفي طريق عودتها رأت عند (المهاريس) دجاجة صفراء فاقع لونها تسر الناظرين يتبعها اثنا عشر كتكوتاً صغيراً لهن جميعهن اللون نفسه» (ص 12).
هذا الترسيم للسرد يكشف عن قدرة كبيرة على خلق المناورة الفنية في حركة السرد، فكل جملة ترتسم فنياً مع الأخرى في خلق تلاحم فني في لغة السرد بين الجمل والدلالات ذات التمفصل القصصي العميق، إذ يسير النسق القصصي بسلاسة لغوية وإيقاع اجتماعي كما في قول الراوي: «أمي تتحدث عن مطاردة الدجاجة وهي تزيح (الصمامة) وعود من حطب الزيتون تغرسه في أحشاء رغيف الخبز لترفعه إلى أعلى» (ص 13).
إن ما يثيرنا فنياً هذا التأقلم التصويري بين حركة الجمل والأنساق اللغوية، وهذا التنامي الإيقاعي الاجتماعي بين لغة السرد والحركة المموسقة لإيقاع الكلمات المتدفقة بسلاسة لغوية متضافرة صوتياً وتصويرياً على صعيد الأنساق الاجتماعية كلها. وإن هذا الانبثاق الاجتماعي في تشكيل لغة سرد اجتماعية يجعل القارئ في متاهة القص السردي، فلا يعي أهو أمام نص اجتماعي قروي ممسرح بالتجربة وعمق دلالاتها الاغترابية، أم إنه أمام نص قصصي اجتماعي بإيحاء فني وكثافة تصويرية رغم تراكم مثيرات السرد وسرعة الانتقال السردي من شكل إلى آخر، ومن دلالة إلى أخرى، ومن معنى إلى معنى.
إذ إن جريان السرد بإيقاع القص يدفع القارئ إلى الحيرة والارتباك فنياً بين جمالية السرد وجمالية الإيقاع، ضائعاً في صيرورة تأملاته السوريالية التي تزيد ذهنه تفتحاً، وتأمله استغراقاً في حركة الأشياء والموجودات من حوله، إنه يمنح القارئ رؤية جديدة ومنظوراً جديداً لحركة الأشياء والموجودات حتى في خضم طغيان لغة السرد والقص الاجتماعي على لغة التصوير القصصي كما في قول الراوي: «ارتجفتُ عندما سماع هذه الكلمة، شُدِهَتْ النسوة، المرأة قالت: إن أناساً كثيرين شاهدوا هناك أشياء غريبة، أحدهم شاهد ديكاً زاهي اللون يتنطط فرحاً كما طفل ليلة عيد، وآخر شاهد مهراً شديد البياض يقف باستحياء ثم يمشي مختفياً» (ص 13).
هذا التفصيل الجمالي للمتخيلات القصصية، والأنساق الاجتماعية المبتكرة، يؤكد أن قصَّ الحناتلة ليس قصاً تقليدياً يقوم على تآلف وتراكيب وأنساق، وإنما هو قص جوهري يتلمس ظواهر الأشياء وبواطنها وشكلها وجوهرها، فكل جملة من الجمل السابقة تشكل مدونة تشكيلية عميقة بإيحاءات تأملية مفضية إلى قص متنامي الجمال.
واللافت أن التحفيز الجمالي للغة السرد يعتمد التساؤلات التأملية المستغرقة في باطن الأشياء، لإثارة حركتها وتعزيز مدلول الفكرة أو الرؤية القصصية المجسدة، كما في قول الراوي: «عظامي تصطك من شدة الخوف.. أكرر آية الكرسي كي لا يجرؤ المارد على الظهور... كيف أحتمل هذا الانتظار المخيف... سأنتظر.. من يدري.. ربما أعود لأمي بدجاجة ذهبية.. ساعتها سأشتري لأبي بغلاً جديداً، ولأخي محمود بيتاً بدلاً من غرفته الصغيرة التي يسكنها عشرة أنفار، أما أنا.. ياه... سأجرؤ بالتأكيد على التعبير لأمي عن إعجابي بزينب بنت خالتي» (ص 14).
إن انقياد القاص إلى لغة السرد جعله يكثف الرؤية التأملية في السياق النصي الواحد، لكسر حاجز السرد أحياناً، ما يجعل باب الاحتمال والتأمل مفتوحاً على مصراعيه، لتكثيف الرؤية وتعميق المغزي القصصي، لكن رغم ذلك فإن طغيان لغة السرد أدى إلى تراكم هذه التأملات المفتوحة الناتجة عن زخم الرؤية التأملية المفتوحة والأنساق التشكيلية الاجتماعية المراوغة ذات الحنكة التصويرية الكبيرة في الانتقال من دلالة إلى أخرى ضمن النسق القصصي الواحد.
يمكن القول إن القاص عبد الله الحناتلة، في مجموعته «المنجل والمذراة»، سعى إلى قص حقيقي قائم على تجذر فني وعلى رؤى تخييلية عميقة تستبطن الداخل أكثر مما تستبطن الخارج.
عن جريدة الرأي الأردنية
http://www.alrai.com/article/12759.html

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق