الثلاثاء، 29 مايو 2012

دور المثقف والخطاب العام





بقلم : علي طه النوباني
أصبحت حياة المبدع في بلادنا مليئة بالحذر والتحسُّب، فلسان حال الأطراف جميعها يطرح السؤال نفسه: من أنت؟ هل تظن نفسك مهماً؟ هل تظن أن ما تسميه إبداعاً أو فكراً يمنحك شرعية ما أو سلطة ما؟ تلاقي شخصاً لم تره منذ عشرين عاماً فيبادرك بالسؤال: أما زلت تقول شعراً؟! أما زلت تكتب؟! فيختلط في رأسك ألف فكرة متذكراً ما نشرت وما كتبت ومستجلياً قيمة وقتك ورحلتك التي قضيت، وغالباً  تتهرب من الجواب لشعورك بلاقيمته في سياق الخطاب المكرس.
ومع الأيام تعدت هذه الرؤية عقل العامة إلى المثقفين أنفسهم فصار كل منهم يمارس السلطة نفسها ضدَّ زميلة بمقدار ما يعتقد أنه قريب من عقل السلطة. ونتج عن هذا كله شعور طاغ لدى المثقفين والمبدعين بانعدام الوزن وعدم القدرة على الفعل؛ بل تعدى ذلك إلى التصرف بشكل احتياطي تجنباً للحرج : لن أسمح لكم بأن تطلقوا هذه الرصاصة نحوي؛ سأطلقها أنا بنفسي، أنا لست مهماً على الإطلاق!.
هكذا تراجع دور المثقفين إلى الصف الخلفي، جلسوا في زاويتهم البعيدة عن المجتمع يتداولون أوراقهم ومجلاتهم، معزولين داخل لغتهم الخاصة ومؤسساتهم الفقيرة الأشبه بمخيمات الصفيح، يعومون على بحر من الاتهامات والصراعات والوجع العميق.
أعرف أن الكثيرين سيتهمونني بالتجني والسوداوية، وإنني أتساءل على سبيل المثال لا الحصر : كم كانت حصة المبدع والمثقف الأردني طوال العقود الأخيرة على شاشة التلفزيون الأردني الرسمي؛ هل عادلت حصة واحد من المغنين من الدرجة الثانية أو حتى بعض الصحفيين الذين دخلوا المجال على سبيل سوء الاختيار؟ وكم كانت حصة المثقفين والمبدعين في المجالس المختلفة التي تشكلت في المحافظات؟ لماذا كانت حصة الثقافة من الموازنة العامة الضحية الأولى لأي عملية تقشف مزعومة رغم ضآلتها أصلاً؟ أليست هذه رسالة واضحة للمثقف والمبدع مضمونها: هل تظن نفسك مهماً؟! أطمئنكم: لقد وَصَلت الرسالة عبر السنوات الطويلة، وتكرست في الخطاب العام، وتمأسست في العديد من مؤسساتنا حتى صار يشار إلى المؤلف على أنه بائع كتب متسوّل، والأنكى من هذا وذاك أن المثقف والمبدع صار عاملاً على هذه النظريَّة، متحسباً للخروج عن حيثياتها، محتاطاً لعواقب مخالفتها نفسياً ومادياً.
وإذا كنا ننتظر نهضة أو تحرراً ونتعامل مع المبدعين على هذا النحو، فمن هو الذي سيقدم المبادرات الإيجابية للنهوض؟ ومن هو الذي سيواجه المجهول من أجل كشف الأفق إذا وصلنا بالمبدع والمثقف إلى ذلك الركنِ في زاوية الحياة مبتعداً عن الإنسان والتجربة والفعل. من هو التاجر الذي سيترك ربحه الوفير لكي يمخر عباب المجهول ويصنع حكاية الأجيال، ومن هو البيروقراطي الذي سيغامر خارجاً عن روتينه القاتل لكي يصنع التغيير الإيجابي المثمر. هل يغامر من أجل الحياة بمعناها النبيل غير المبدع والمثقف المحترم؟ .فإذا ما كرست السلطة نهجا في ازدرائه وجعله قابلا للقسمة على جميع المتناقضات، وإخراجه من دوره الطليعي إلى زاوية التلوُّن الحربائي والتُقيا؛ فإنما كرَّست خسارة يدفعها المجتمع بكامله وليس المثقف فقط.
انسحب المثقف من موقعه الطليعي؛ تاركاً درجات السلم لمن يتقنون صعودها بالشروط التي وضعها الخصم الحكم، متجاهلاً مستقبله ومستقبل الأجيال القادمة التي تحتاج إلى تعويذة سحرية ودعاءٍ طويل، لكي تستطيع التعامل مع ميراث تكرَّسَ لقلبِ هُوية المجتمع رأساً على عقب، ووضعَ المثقفِ والمبدعِ في أسفل الهرم.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق