الثلاثاء، 27 سبتمبر 2011

!!صديق صهيوني




قصة : علي طه النوباني
لم أتصور في يوم من الأيام أن يكون لي صديق صهيوني حتى لو كان ذلك على الانترنت، كيف وقعتُ في هذا الخطأ الفادح ؛ كيف اعترفُ بإنسانية شخصٍ لا يعترف بإنسانيتي، وكيف لي أن أنسى هذا الكم الهائل من الجرائم التي أصبحت تُبثُّ علناً على الفضائيات، وكيف سأواجه أصدقائي؛ سيتهمني اليمين بالعمالة ، واليسار بالتطبيع والخيانة. نعم لقد منحتهم هذه الفرصة الذهبية على طبق من ذهب بتسرعي وتهوري، أنا الحريص الذي اعتاد أن يعد للمائة قبل أن يخطو  خطوة واحدة.
وها هي الظروف تتآمر علي ثانية ، لقد وقعت في هذا الخطأ في أضيق الأوقات في اللحظات الأخيرة قبل خروجي لهذه الرحلة اللعينة ، كنت أجمع أكبر عدد ممكن من الأصدقاء على أحد مواقع التعارف من أجل حشد أنصار الديمقراطية وحقوق الإنسان، وبينما كنت أضغط على زر طلبات الصداقة بشكل آلي ومتتابع ؛ وجدت أني قد أرسلت طلب صداقة لشخص كُتب اسمه إلى جانبه باللغة العبرية ... نعم العبرية ؛ وإلى جانب اسمه وضع علم الكيان الصهيوني، ذلك العلم الذي يجمع كل النقائض : اللون الأزرق الذي أحبه حد الجنون، وذاكرة الدم والمذابح والترحيل، ونجمة داود التي تذكرني بطفولتي عندما كان الكثير من الناس يحملون تمائم رُسِمت عليها هذه النجمة مزخرفة بدعوى أنها تجلب البركة.
صدقني يا سعيد ، لم أنتبه، لقد حدث هذا سهواً، ذهب عقلي بعيداً في التفكير في جدوى ما أفعله، تساءلت : هل هنالك قيم وأخلاق تُُسيِّر عالمنا، أم أنه محكوم بنزوات المجرمين، ورغبات الجشعين، وآفاق الظلام المغلقة! لم أر في هذه الحياة ما يدعم فرضية المثل العليا، لقد كانت على الدوام دولة الظلم قرناً ودولة الحقِّ ساعة، فلماذا أركض نحو النور بشغف لا ينتهي بينما تَهدُّني المظالم.
عضضتُ على أصابعي ندماً، وقلت في نفسي لا بد سيرفض صداقتي ويريحني من تبعات ظهوره في قائمة الأصدقاء.
واليوم وقبل خروجي من البيت، كان معي عشرون دقيقة لأتأكد من الأمر ، ومع الأسف وجدت صورته بين قائمة أصدقائي، حاولت أن ألغي صداقته، ولكني لم أعرف طريقة ذلك في هذا الموقع الإلكتروني اللعين الذي يختلف عن سائر مواقع التعارف  بتعقيدات تحتاج إلى معرفة خاصة بها ، وما لبثت أن تلقيت مكالمتك فخرجت منزعجاً.
كان سعيد ينظر من نافذة الحافلة نحو البعيد : وراء هذه الصحراء يجلس صديق صديقي الجديد في بيت بُنِي فوق ركام بيتي، والمفتاح الذي يحتفظ به والدي منذ عقود طويلة أصبح أيقونة افتراضية للقاءات لم تتم مثل لقاءاتك الافتراضية يا أحمد!  كلُّ أولئك الذين كان من المفترض أن أعيش بينهم في حيفا ؛ وأن يكونوا جيراني وأنسبائي وأصدقائي نشئوا مع آخرين وأخريات في عوالم تمتد من مدن الصفيح إلى قصور ألف ليلة وليلة، وتغيرت أطوالهم وكتلهم وأوزانهم تبعاً لزمكان جديد صنعه صديق صديقي الذي بعثر الأوراق في هذا الزمن بالذات لكي أسكن في قصور الحيرة والضياع، وأقارن عمري القصير بعمر الزمن ومتاهة الأيام. وكل تلك الأمكنة التي كان من المفترض أن تصوغني وأصوغها ، وأن تملأني اشتعالا وأملأها ذكريات وأغانٍ، وأن أكون ركناً من أركانها وحلقة من حلقات وجودها هي الآن فضاء لغرباء لا يدركون لغتها ولا نبضها ولا يعرفون كم من القصص أرسلت لعناتها عليهم من غور معرفة قديمة جديدة تألهت وغنت : يا أولادي معانا ... يويا ... غنوا ويانا ... يويا ...أمي فلسطين ... يويا...
ضرب أحمد بيده على كتف سعيد ، ونظر حوله في توجس : ما بالك يا سعيد ، هلا أرحت بالي ولو بكلمة!
قال سعيد وهو يحكُّ أنفه برأس إصبعه: لا عليك عندما نصل سوف تلغي هذه الصداقة وينتهي كل شيء، فنظر أحمد إليه متمتماً : نعم حتى لو اضطررت إلى إلغاء حسابي على ذلك الموقع تماما.
أغرق سعيد ثانية في تفكير عميق: لقد عاشوا هنا بيننا آلاف السنين ، رباه ... إن إنسانيتي لا تحتمل كل هذا العداء ، فكيف هم يحتملون : أليسوا بشراً لهم أرواح وأفواه وعيون ، ألا يوجعهم الدم والنحيب، ألم يروا محمد الدرة وهو يرتجف وراء البرميل الحديدي بجسمه النحيل حتى رحل صوته إلى ذاكرة العداء الأبدي ليشتعل لعنات تصنع زمناً لا منتهياً للحرب والدمار، أولم يستمعوا إلى صرخات هدى غالية وقد غصت بحبات الذرة الصفراء وهي تسمع شهقات أسرتها الأخيرة.
صرخ أحمد بينما كان سعيد يمسح خده وهو ينظر من النافذة : لقد وصلنا، هيا بنا ننهي هذه المشكلة قبل أن تتفاقم.
خرجا مسرعين نحو أقرب مقهى انترنت ، فالمسألة عاجلة إلى درجة عدم انتظار الوصول للبيت ، فتح أحمد حسابه، وأخذ يبحث عن صديقه الصهيوني ... ثم صرخ : سعيد!
-      ما بالك؟
-      لقد سبقني وألغاني من قائمة أصدقائه.     



اقرأ أيضاً على حبيبتنا

أنشودة العرب، شعر: علي طه النوباني  

بنما دولة بعيدة... ومُشوِّقة جدا  

الأزمة الاقتصادية، ومصالح الطبقات  

قراءة في رواية دموع فينيس لعلي طه النوباني  

عَهْدُ فلسطين - عهد التميمي  

كذبة نيسان  

الشوكُ جميلٌ أيضا  

«مدينة الثقافة الأردنية».. مراجعة التجربة لتعزيز الإيجابيات وتلافي السلبيات  

المشنقة  

البيطرة  

قصة نظرة  

عملية صغرى  

سيجارة على الرصيف  

بالشوكة والسكين والقلم  

نهاية التاريخ؟ مقالة فرانسيس فوكوياما  

الدولة العربية الإسلامية / الدولة والدين/ بحث في التاريخ والمفاهيم  

شهامة فارس  

جذورالحَنَق الإسلامي برنارد لويس  

صِدام الجهل : مقالة إدوارد سعيد  

صدام الحضارات؟ صموئيل هنتنغتون 

الفضائيات والشعر  

كأسٌ آخرُ من بيروت 

عمّان في الرواية العربية في الأردن": جهد أكاديمي ثري يثير تساؤلات 

تشكّل الذوات المستلبة  

مشهد القصة بين الريف والمدينة  

وحدة الوجدان والضمير  

«المنجل والمذراة».. استبطان الداخل  

دور المثقف والخطاب العام  

جرش: حديث الجبال والكروم  

في شرفة المعنى 

المثاقفة والمنهج في النقد الأدبي لإبراهيم خليل دعوة للمراجعة وتصحيح المسيرة  

!!صديق صهيوني  

عنترُ ودائرةُ النحس  

فجر المدينة  

مقامة الأعراب في زمن الخراب  

دورة تشرين 

الغرفُ العليا  

الصيف الأصفر  

حب الحياة: جاك لندن 

قصة ساعة كيت تشوبن 

قل نعم، قصة : توبايس وولف 

معزوفة الورد والكستناء  

منظومة القيم في مسلسل "شيخ العرب همام"  

ملامح الرؤية بين الواقعية النقدية والتأمّل  

الرؤية الفكرية في مسلسل «التغريبة الفلسطينية»  

"أساليب الشعريّة المعاصرة" لصلاح فضل - مثاقفة معقولة  

كهرباء في جسد الغابة  

جامعو الدوائر الصفراء  

صَبيَّةٌ من جدارا اسمُها حوران  

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق