السبت، 1 يناير 2011

معزوفة الورد والكستناء


معزوفة الورد والكستناء
"من وحي البتراء"
بقلم : علي طه النوباني


(1)
يا الله !
كنت أنظر من شباك الحافلة عندما داهمني أفق غرائبي يبعث على التوجس والجنون ، تمنيت لو كان لي جناحان كي أحلق مستحضرا كل ما عرفت من مفاتيح الغموض ومسالك الدهشة .
أطلت الجبال فجأة بعد مسير طويل ... كتل صخرية عملاقة مشبعة بالتفاصيل والتجاويف اللامتناهية، محملة بالرؤى والعناقات الأزلية، وكأنها صورة الغيوم على صفحة الأرض تخادع الرائي لتبدو في كل مرة سفراً ملغَّزا للمجيء والإياب ، للإقامة والسفر ، للعشق والألم ، ربما كانت هذه الجبال تسير يوما حتى تعبت وهدَّها الترحال مثلى فأقامت هنا تدعو للقراءة ... فاقرأ ...
هنا سفر الجبال والنتوءات العجيبة التي أقامت فيها أوجاع الأرض وأفراحها ، حروبها وسلامها ، وأول النظرات بين العاشقين في أوعر المسالك .
تلك الدوائر الناتئة تحت قمة ذلك الجبل الذي أراه أينما توجهت في وادي موسى تصطف إلى جوار بعضها وينساب من تحتها ما يشبه أجسادا آدمية شاخصة أبصارها نحو الأفق حتى أني خلتها عمالقة على شاطئ الغرابة يشربون من الأفق ما تبقى من حكاية الخلود .
- أنظري هناك في الجبل إلى أولئك العمالقة الوادعين !
- أين ... ؟
- هناك ...
- آه نعم ... كيف انتبهت لهذا ؟
- في الأمكنة العادية ترين ما هو موجود فعلا وكما هو ... أما هنا فترين ما هو موجود في داخلك .
                        (2)
-لا أنصحك بمتابعة المسير فأمامك عشرة أمثال المسافة التي قطعتها ...
قال ذلك رجل يسير باتجاه السيق بلهجة مترددة خشية أن يجرح مشاعري ، وكنا قد دلفنا من باب التذاكر لمشاهدة الخرنة ليلاً وهي مضاءة بالشموع ...
شعرت أن الرمل يأكل عكازتيَّ الخشبيتين ، وأن الأنوار الخافتة المثبتة على جانب الطريق الوعر ما هي إلا دموع نتوءات  تلك الجبال بعد مقارعة الدهور .
- الأفضل أن تعود في النهار وتستعمل العربة لأن الطريق طويل وصعب .
ياه ... الطريق كان دائما طويلا وصعبا ، وكم داهمني العجز في أجمل اللحظات ... فلم أنكص عن التجريب . سأعود غدا ، لقد نحت الأنباط قصتهم في الصخر ولا بأس أن أجرب نحت قصتي على صفحة العجز والمحاولة ...
              - أنظر يا عبد الله ، هذه مريم عائدة أيضا ...
            (3)

كما توقعت كان الركوب في العربة يسبب اهتزازا شديدا كمن يحمل إزميلاً ويضرب في الصخر .
       -" الحصان جائع جدا وهو يتوقف بين الفينة والأخرى ".
      هكذا قال إبراهيم وهو يشد الحبل ليوجه الحصان إلى مدخل السيق.
           - " قل للحصان أن يتمهل" . قلت لإبراهيم ممازحا فابتسم وهو يمد يده إلى شعره الأسود الطويل ، ثم كانت الخطوة الأولى في السيق .
                ( 4)
 يا الله !!
في كل شبر من هذا الممر الضيق الطويل ألف ألف لوحة .
-                                 سامحك الله يا أبا علاء ... لِمَ لَََََمْ  تصوّروا هذا ... وهذا وذاك ".
نظر إليَّ أبو علاء وفي وجهه شيء من لون الصخور الوردي :
              -" مهما صورنا فلن نصل إلى عظمة المكان، ولن نبلغ دهشة الحقيقة ... إنما نختلس بعض اللوحات لنعبر عن الجزء لا الكل".
رأيت في السيق فتاة نبطية لها عينان سوداوان محاطتان بالكحل وخدٌّ أشبه بالكستناء الشهية وقد اشتعلت دفئا تسيل عليه دمعة حرى ذكرتني بالقصائد المكتوبة بإزميل  التحدي على صخور المفارقة.
كانت تعانق شابا بكامل عدّة القتال وهو ذاهب لمحاربة الروم بينما كان طفل صغير يحوم حولهما وكأنما يرقب أمرا . ذُهلتُ للشبه الكبير بين سائق العربة إبراهيم وهذا الشاب النبطي.
نَظَرت الفتاة إلى الأعلى وكأنما تحصي خيوط الشمس القادمة من الارتفاع الشاهق للسيق ، وكانت الألوان معركة كتلك التي تشتعل في عروقي لاستحضار قوم نقشوا عشقهم حكاية لكلِّ من ينبثق مثل حمرة الصباح في تلافيف الزمن ، ولكل من يعرف حرارة الدمع في غبش التجلّي .
هذا للقراءة ... فاقرأ أيّها الرائي !؟
إقرأ دمع الوداع عندما يعانق السيف ، واقرأ قصة الإزميل عندما يؤجج الصخور ناراً ويصنع الحكاية .
-                             أبو علاء ... صوِّر هذه النبطية العاشقة ؟
-                             هاه ... نبطية ؟؟
نفضت رأسي وانبلج فجأة من نهاية السيق مشهد مشرق يدمج إيحاء الانتظام بعشوائية الانحناء، ودفء العطف باشتعال الحنين ، ودهشة الضوء من تشكل الظلال ...
-                             في أي ساعة أعود لكما بالعربة ؟
       عيناي كانتا مسلطتان على الخزنة وهي تشرق مثل مارد أسطوري بين الكتل الحجرية العملاقة بتدريجها اللوني الباهر .
        شدهني هذا المزج بين المألوف واللامألوف ، بين الخطوط المنحنية والخطوط المستقيمة ، وكأنَّ الجبل العظيم أمّ عذراءُ تضمُّ طفلها وتداري عليه من وعثاء السفر، تعلق عليه التمائم وتماثيل الآلهة كي يبقى رسالة للقادمين مثلي من وجع المرافئ الغريبة ليشبعوا قلوبهم وعيونهم بالألوان والحكايات المطرزة بآلام الوجود والرحيل، ويتذوقوا نكهة الترحال في ردهات الزمن.
         - " متى تريدون العودة ...؟ "
كان إبراهيم قد راقب نظراتي مبتسماً نحو انبثاقة الخزنة من الشق الضيق .
-                             "ما رأيكِ يا سيدة مريم ... بعد ساعتين ، مناسب ؟"
كنا كلانا نعرف أن آخر محطة يمكن بلوغها بالنسبة لنا هي الخزنة ، أما المعالم المتبقية فهي بعيدة أو مرتفعة كما أكد لنا الجميع .
-                             " لا بأس " قالت السيدة مريم بأسف عميق .
راودتني نفسي أن أغامر بالتقدم لكنني خشيت أن تخذلني عكازاي أكثر من أي شيء آخر ، فقنعت بالجلوس مقابل الخزنة.
رأيت الفتاة النبطية تقود طفلها الصغير وهي عائدة من السيق تختلط ألوانُ ثوبها الوردي المشبع بالليونة بمعرض الألوان الذي يجمع الشمس مع صخور البتراء  ، كانت تقبض بيدها الصغيرة على شيء ما ربما كان بعض الدفء الذي تركه في يدها ذلك المقاتل، ولا أدري لماذا تخيلت نفسي ذلك الطفل الصغير وهو يغوص في لحظة الوداع ، لا ريب أنه سيفتقد الجولة المسائية مع والده في مسالك المدينة الساحرة ، ولطالما ستعذبه دموع عروس البتراء وهي تنساب فوق الكستناء.
كان نظر النبطية الفاتنة مسلطاً على شيء ما في الخزنة ربما كان تماثيل الآلهة .
" أيتها الآلهة أحرسي إبراهيم من السيوف والسهام ، ومن وجع الشوق والعشق ، وليعد لنا سالما منتصراً ، وإذا مات فليمت بطلاً، وليكن قمــــرا للمدى في أفق البتـــراء الجريح ..."
كنت أبحث عن معشوقتي النبطية ذات العيون المكحلة والخدّ الكستنائي والدمعة اللؤلؤية ، أحاول أن أنحت دهشتي ، لكن صخرة العجز تبدو أكثر قسوة وهي تثير الدمع والانكسار . من هو الذي قطع المياه عن مدينتي الوردية لتسقط في يد المأساة ؟ ومن هو الذي أشبع النبطية المعشوقة بمرارة الذل والاغتراب ؟ ومن هو الذي زرع الصحراء بالوجوه الغريبة ؟
  أنذا هنا أيها الحارث أراك تجوب محيط وادي موسى، تتفقد القوافل وأنواع السيوف والعطور والبخور،  وتستمع إلى آخر أخبار جيش الروم وهو يجوب الصحراء بحثا عن النبطية المعشوقة فيُجفِل الغزلان في جبال البتراء وحقول الشوبك ويبني مرافئ للرحيل والبكاء.
تأملت عكازتي الخشبية ، رأيت فيها شيئا من أعمدة الخزنة ،وشرقت قليلا عندما غادر الفريق ليشاهد بقية المدينة لكنني قنعت بالفراق، وبقيت أتأمل الفتاة النبطية وهي تسير مع طفلها الصغير حتى غابت في الأفق تاركة في روحي وجعاً لا ينضب .
إليك عني أيتها الجبال الشاهقة ، خذي شيئا من وجعي المعتق وازرعيني هنا على لحظة تستغرق الدهر وتسكن الضلوع المهشمة.
عندما انطلقت الحافلة مبتعدة عن البتراء ووادي موسى  بقيت تلك النبطية الفاتنة بعيونها المكحلة وخدِّها الكستنائي وثوبها الوردي إلى جوار روحي معبداً أزلياً للعشق والتجلي ، ونافذة على هياكل السحر والخلود .
-                             أبو علاء أرجوك صور هذه النبطية الرائعة .
-                             هاه .... نبطية ؟؟
1- من وحي البتراء بعد الإقامة في المخيم الثقافي الثاني عشر والذي أقامته وزارة الثقافة من 7\6\2007 إلى 10\6\2007 .
2-مريم : مريم الصيفي / شاعرة
3- عبد الله : عبد الله الحناتلة / كاتب
4 – أبو علاء : أحمد السفاريني / مصوّر

   
        


  

اقرأ أيضاً على حبيبتنا

أنشودة العرب، شعر: علي طه النوباني  

بنما دولة بعيدة... ومُشوِّقة جدا  

الأزمة الاقتصادية، ومصالح الطبقات  

قراءة في رواية دموع فينيس لعلي طه النوباني  

عَهْدُ فلسطين - عهد التميمي  

كذبة نيسان  

الشوكُ جميلٌ أيضا  

«مدينة الثقافة الأردنية».. مراجعة التجربة لتعزيز الإيجابيات وتلافي السلبيات  

المشنقة  

البيطرة  

قصة نظرة  

عملية صغرى  

سيجارة على الرصيف  

بالشوكة والسكين والقلم  

نهاية التاريخ؟ مقالة فرانسيس فوكوياما  

الدولة العربية الإسلامية / الدولة والدين/ بحث في التاريخ والمفاهيم  

شهامة فارس  

جذورالحَنَق الإسلامي برنارد لويس  

صِدام الجهل : مقالة إدوارد سعيد  

صدام الحضارات؟ صموئيل هنتنغتون 

الفضائيات والشعر  

كأسٌ آخرُ من بيروت 

عمّان في الرواية العربية في الأردن": جهد أكاديمي ثري يثير تساؤلات 

تشكّل الذوات المستلبة  

مشهد القصة بين الريف والمدينة  

وحدة الوجدان والضمير  

«المنجل والمذراة».. استبطان الداخل  

دور المثقف والخطاب العام  

جرش: حديث الجبال والكروم  

في شرفة المعنى 

المثاقفة والمنهج في النقد الأدبي لإبراهيم خليل دعوة للمراجعة وتصحيح المسيرة  

!!صديق صهيوني  

عنترُ ودائرةُ النحس  

فجر المدينة  

مقامة الأعراب في زمن الخراب  

دورة تشرين 

الغرفُ العليا  

الصيف الأصفر  

حب الحياة: جاك لندن 

قصة ساعة كيت تشوبن 

قل نعم، قصة : توبايس وولف 

معزوفة الورد والكستناء  

منظومة القيم في مسلسل "شيخ العرب همام"  

ملامح الرؤية بين الواقعية النقدية والتأمّل  

الرؤية الفكرية في مسلسل «التغريبة الفلسطينية»  

"أساليب الشعريّة المعاصرة" لصلاح فضل - مثاقفة معقولة  

كهرباء في جسد الغابة  

جامعو الدوائر الصفراء  

صَبيَّةٌ من جدارا اسمُها حوران  

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق