قصة : علي طه النوباني
(1)
ـ احذر يا حسام !
ـ ماذا ...؟
ـ احذر أن تدهس الجِراء!!
هكذا انبثق صوتها حنوناً دافئاً أشبه بانسكاب المياه على أرض جرداء ، فاستبق ظلامُ روحي الباب وقُدَّ قميص العمر على مشارف النهاية.
كان هنالك جروان صغيران رأساهما مربعان تقريباً يفوح من عينيهما سحر الحركة الدائبة ، كانا يصعدان المنحدر في عكس الاتجاه الذي تهبط فيه سيارتي ؛ يتبادلان الأماكن بسيرهما المتعرج الموحي بالبلادة وعدم الاهتمام تجاه وجودنا ، فهما لا يخافان السيارة ولا يعبآن بهدير محركها ولا حتى بطرطقة الحجارة المنثورة في هذا الشارع الترابي المؤدي إلى الإسفلت .
ـ حسام ... احذر ...!
أوقفت السيارة وقوفا تاماً ، كان الجروان ينظران نحونا دون أن يرمشا على الرغم من اهتزاز رأسيهما وقد أصرّا على اعتراض طريقنا الوعر وكأنهما يقولان لنا أنَّ عودتنا الخائبة نحو مدينة الكبت والاختناق إنما هي تعبير عن خبل يسكن أرواحنا المعذبة .
ـ احذر ...!
أطْلقتُ زامور السيارة .
ـ ابتعدا عليكما اللعنة؟؟
كنا كلانا تحت تأثير الحوار الذي انقطع منذ قليل بشكل مؤلم تحت واحدة من أشجار الغابة الصغيرة ...
ـ ما أحنَّ قلبكِ يا سعاد كم تخافين على هذين الجروين الصغيرين في الوقت الذي تستطيعين فيه بكل قسوة زجري عن قبلة انتظرتها طويلا بل وقطعت معك عشرات الكيلومترات لأقطفها بعيدا عن مدينة الجوع والموت .
استطعت تفادي الجروين الصغيرين بعد أن رمقتها بنظرة فاض منها كثير من الحب والعتب ، كانت زهور الدحنون الحمراء قد تفتحت على جانبي الشارع الإسفلتي القاتم واكتست الأرض بتلك الطبقة الخضراء التي لا تلبث أن تضربها الشمس بحرارتها اللاهبة فيتلون الأفق بالأصفر الباهت ، هكذا هو الربيع في بلادنا، حلم قصير مثل لحظات السعادة التي نختلسها بعناء من بين ثنايا وحش أسطوري يربض فوق ركام عقولنا المسكونة بالخوف والهزيمة.
قبل قليل جلسنا بين الأشجار ، كانت أشعة الشمس تخترق الأشجار المشبعة بنسيم الربيع المائل للبرودة، كنت أكثر خجلا من أشعة الشمس عندما حررت لساني من السلاسل وفاجأتها بكلمة : أحبك .. أحاول أن أخرجك من هيكل روحي ... فتكاد أن تخرج روحي وتبقين أنت .. أحبك مثلما تعشق الأشجار حبات المطر وينهمر الرضيع على ثدي أمه .
نَظَرت نحوي ثم أطرقت
ـ ...حسام .. أنت متزوج ، ولديك أطفال !!
ـ لا أدري ... لا بد أن فهما خاطئا قد سيطر على هذه الحياة!
ـ أريد أن أقول ...
ثم صمتت.
هذه هي حالها دائما ... تريد أن تقول ... ثم تلوذ بالصمت ، كانت ألوف العيون المستبدة البليدة تجوب فراغ الأمكنة وتتبعنا حتى في هذه الغابة الصغيرة لا نراها ولكن هيأت لنا كل مشاعرنا أنها ترانا .
اتجه الجروان نحو الأشجار بينما انحدرنا نحو الشارع الإسفلتي الداكن ... كنا صامتين وكانت تفوح منا رائحة التردد والألم ، نظرت في المرآة فرأيت الجروين الصغيرين ، كانا يتبادلان الأماكن ويهتز رأساهما في حركات منتظمة مع إيقاع سيرهما نحو الأشجار .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق