السبت، 1 يناير 2011

دجاجة من ذهب


دجاجة من ذهب
قصة : عبد الله الحناتلة

مستطفلاً أحاذي أمي ، أسترق السمع لأحاديث النسوة المجتمعات حول الطابون،كلُّ واحدةٍ منهن أعدَّت لطبقها متكأً . الأطباق مثقلة بقطع العجين ، مكتسيةٌ ببياض الطحين الذي أغلق مساماتها والشقوق .
الطابون أخاله مثلي يسترق السمع وتُصَبُّ حوله كلُّ أسرار البيوت وقصص الغرام القديمة ، يلتهب فتفوح رائحة شواء الخبز مستحثةً خواء البطون  .
حبال الودِّ موصولة بين جاراتنا اليوم بالرغم من أنَّ إحداهن كانت بالأمس تكيل جليستها الآن كلَّ أنواع الشتائم المعيبة ، وتُلحق ابنتها بها غيبةً وقذفاً ، تصفها بالغاوية التي تمتهن مغازلة شباب القرية، وتذكر أنَّ لكلِّ واحد  منهم معها قصة ، وتستشهد  بأنها كانت تزجر ابنها وتوبخه إذا ما خاطب تلك الفتاة ، وأنه ذات مرةٍ أمسك به أصحابُه معها تحت شجرة التين فأخذوا يغنّون  (اطلع من تحت التينة  شايفك ...    شايفك ...  هيه ) وهذا سِرُّ خجله عندما يسمع هذه الأغنية في الأعراس .
-        ليلة الخميس تعللت عند أم سالم
بهذه الكلمات بدأت أمي حديثها للنسوة وقالت أنَّ سهرتها في تلك الليلة تجاوزت منتصف الليل المدلهم وفي طريق عودتها رأت عند (المهاريس) دجاجة صفراء فاقع لونها تسر الناظرين يتبعها إثنى عشر كتكوتاً صغيراً لهنَّ جميعهن اللون نفسه .
-        لَــتْكون إلكو  يا أم سعيد
-        لا خيه ميه إلنا بجوز لفضيه .
 سردت أمي ما حدث معها في تلك الليلة ، قالت لأخي "قف هنا .. لا تتحرك" أخذت تلاحق الدجاجة الصفراء محاولةً الإمساك بها وكلما أمسكتها انزلقت الدجاجة من بين يديها كقطعة صابون،  إلا أنها لم تستسلم رغم محاولاتها الكثيرة الفاشلة التي كانت تدفعها لمزيدٍ من الإصرار لكي تظفر بتلك الدجاجة .
الدجاجة تنجح دوماً بالانزلاق من بين يدي أمي كأنها فارس ينازل عزيمتها المشحوذة بحبها لتربية الدجاج، وخاصة إذا ما كانت كهذه الدجاجة ، تلاحقها مرةً وتعاكس اتجهاها مرةً أخرى فتلاقيها إلا أن الدجاجة كانت عصية على الإمساك .
لماذا أمي لم تلقِ بالاً للكتاكيت ؟ لِمَ لَمْ تحاول أن تمسك بواحد منها ؟
تتبعثر الكتاكيت تارة وتلتئم أخرى حول أمهم المطاردة .
أمي تتحدث عن مطاردة الدجاجة وهي تزيح ( الصمامه) وعود من حطب الزيتون تغرسه في أحشاء رغيف الخبز لترفعه إلى الأعلى ، تتعلق به حصيات هاربةٌ من تأجج الطابون فتضربها أمي لتعود سبعين خريفاً في أعماق الطابون الذي يواصل شواء الخبز مستمتعا بحديث النسوة ، فهو على غير كل الأسماء المذكّرة يخالط النسوة ويستمع إليهن وإذا ما لامس يد إحداهن انتفضت مرتعشة كمن يتخبطه المس من الجن ، وعنده يجوز التبرج للنساء ولهن أن يرفعن ثيابهن الطويلة  حدَّ الركب فتتراءى البناطيل الملونة .
النساء يستمعن بشغف لحديث أمي التي كانت تستسلم لرغبتها بامتلاك الدجاجة دون تَفَكُّر حتى قهقهت إحداهن قائلةً:
-        الله يهدّ حيلك يا مجنونة... هاي غولة الزلمة الي نقتل هناك.
  ارتعشتُ عند سماع هذه الكلمة ،كما شُدِهَتْ النسوة ،المرأة قالت ما أفهمني أن أناساً كثيرين شاهدوا هناك أشياء غريبة ،أحدهم شاهد ديكاً زاهي اللون يتنطط فرحاً كما طفل ليلة عيد، وآخرُ شاهد مهراً  شديد البياض يقف باستحياء ثم يمشي مختفياً ، أما أبو فخري فقد شاهد هناك مارداً ألجمه حتى مات ، كما أن الشيخ محمد قال : "من يشاهد شيئاً هناك ويقرأ عليه آية الكرسي سيستحيل ذلك الشيء ذهباً ".

آية الكرسي أحفظُها عن ظهر قلب ،ليلة الخميس اغتسلت ثلاث مرات وتوضأتُ مثلها ... نعم فآية الكرسي تستحق مزيداً من الطهارة  وكذلك الدجاجة ،جلستُ عند (المهاريس) الظلام بدأ يغشى المكان ، الهدوء يهش غوغاء النهار، الليل يتقادم ويُسكن الناسَ بيوتَهم إلايَ ... فأنا على موعد هذه الليلة سأبقى ملتصقاً بهذا الحجر الذي أجلس إليه أحتضن خدي بكفيّ حيناً ،وآخر أحتضن ركبتي.
عظامي تصطكُّ من شدة الخوف ... أكرِّر آية الكرسي كي لا يجرؤ المارد على الظهور... كيف أحتمل هذا الانتظار المخيف...  سأنتظر ... من يدري ... ربما أعود لأمي بدجاجة ذهبية ... ساعتها سأشتري لأبي بغلا جديداً ولأخي محمود بيتا بدلا من غرفته الصغيرة التي يسكنها عشرة أنفار ، أما أنا ... ياه... سأجرؤ بالتأكيد على التعبير لأمي عن إعجابي بزينب بنت خالتي.... يجب أن لا أسرح طويلا ... " الله لا إله إلا هو الحي القيوم ..."
أعاود قراءة آية الكرسي  مرةً تلو المرة وأنا متكيءٌ على تلك الصخرة كي لا أنسى منها حرفاً واحداً إذا ما ظهرت الدجاجة فتنزلقَ مني كما انزلقت من أمي،بقيت أقرأها بكل حركاتها وسكناتها  بمدها وإخفائها ،إدغامها وغنتها ،قلقلتها وإقلابها ،لتظهر الدجاجة وتنقلب ذهباً، أتقنتُ القراءة كما شيوخ الكتاتيب سأنتظرها وصغارها الإثنى عشر...     إثنا عشر؟ كيف استطاعت امي عدهنَّ في تلك الليلة المظلمة ؟!
 أخذ الصبح يتنفس يَقْشَعُ بواقي الليل إلا أن الدجاجة لم تأتِ  ، وبدأتُ أتخيل ماردا طويلا أقدامه قرب المهاريس ورأسه في السماء !! 





المهاريس: أشجار الزيتون المعمرة
الصمامة :غطاء فرن الطابون  


اقرأ أيضاً على حبيبتنا

أنشودة العرب، شعر: علي طه النوباني  

بنما دولة بعيدة... ومُشوِّقة جدا  

الأزمة الاقتصادية، ومصالح الطبقات  

قراءة في رواية دموع فينيس لعلي طه النوباني  

عَهْدُ فلسطين - عهد التميمي  

كذبة نيسان  

الشوكُ جميلٌ أيضا  

«مدينة الثقافة الأردنية».. مراجعة التجربة لتعزيز الإيجابيات وتلافي السلبيات  

المشنقة  

البيطرة  

قصة نظرة  

عملية صغرى  

سيجارة على الرصيف  

بالشوكة والسكين والقلم  

نهاية التاريخ؟ مقالة فرانسيس فوكوياما  

الدولة العربية الإسلامية / الدولة والدين/ بحث في التاريخ والمفاهيم  

شهامة فارس  

جذورالحَنَق الإسلامي برنارد لويس  

صِدام الجهل : مقالة إدوارد سعيد  

صدام الحضارات؟ صموئيل هنتنغتون 

الفضائيات والشعر  

كأسٌ آخرُ من بيروت 

عمّان في الرواية العربية في الأردن": جهد أكاديمي ثري يثير تساؤلات 

تشكّل الذوات المستلبة  

مشهد القصة بين الريف والمدينة  

وحدة الوجدان والضمير  

«المنجل والمذراة».. استبطان الداخل  

دور المثقف والخطاب العام  

جرش: حديث الجبال والكروم  

في شرفة المعنى 

المثاقفة والمنهج في النقد الأدبي لإبراهيم خليل دعوة للمراجعة وتصحيح المسيرة  

!!صديق صهيوني  

عنترُ ودائرةُ النحس  

فجر المدينة  

مقامة الأعراب في زمن الخراب  

دورة تشرين 

الغرفُ العليا  

الصيف الأصفر  

حب الحياة: جاك لندن 

قصة ساعة كيت تشوبن 

قل نعم، قصة : توبايس وولف 

معزوفة الورد والكستناء  

منظومة القيم في مسلسل "شيخ العرب همام"  

ملامح الرؤية بين الواقعية النقدية والتأمّل  

الرؤية الفكرية في مسلسل «التغريبة الفلسطينية»  

"أساليب الشعريّة المعاصرة" لصلاح فضل - مثاقفة معقولة  

كهرباء في جسد الغابة  

جامعو الدوائر الصفراء  

صَبيَّةٌ من جدارا اسمُها حوران  

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق