الخميس، 30 ديسمبر 2010

الحِزام


الحِزام

                               علي طه  النوباني

لم يُدْركْ الصبيُّ في البداية سَبَباً لِتَحَوُّل الثرثرةِ المُتَبادَلَةِ بين المراجعين المنْقَسِمينَ زَرافاتٍ زرافات ؛ في صالةِ الانتِظار أمامَ عِيادَةِ الطَّبيب إلى ضحكٍ شديد . فكأنَّما أصبَحَتْ عُيونُهمْ عُيونَ بقر، وأشداقُهمْ مَناشيرَ تَقْبضُ على ساقِ شجرة .
وَلِلْوَهْلَةِ الأولى لم يَخْطُرْ للصبيِّ أنَّهُ كانَ مِحْوَرَ هذا الضَّحِك والصَّخَب الشَّديدين ، فهو في هذا اليوم بالذات يَرْتَدي سِروالاً من القِماش له العَديدُ من الجُيوبِ الَّتي يَستَطيعُ أنْ يَضَعَ يَدَهُ في أيٍّ مِنها وَيَرْفَعُ رأسَهُ فرحاً بهذه التَقْنِيَةِ الجديدة الَّتي طالَما انْتَظَرَ أنْ تَدْخُلَ حَياتَهُ .
كانَ الصَبيُّ بالأمسِ قدْ انْفَجَرَ باكِياً  أمامَ أمِّهِ بعدَ طولِِ كَبْتٍ ومَرارة ؛ إذْ أنَّ صَبْرَهُ  قد نفذ ولم يَعُدْ يَحْتَمِلُ أنْ يَذْهَبَ إلى المدرسة وهو يرْتَدي بنطال   (السترتش )
لقدْ أدركَ الصبيُّ أثرَ هذا النوع من البنطلوناتِ على مظهر من يَرْتَديها لِكَثْرَةِ ما راقَبَ القِلَّةَ منْ زُمَلائهِ الَّذينَ يَرْتَدونَ مِثْلَها ؛ فَهي تُبدي تجاعيدَ كثيرةً يَتَغَيَّرُ شكلُها على الدَّوامِ كالأميبا ، وهيَ تَخْلو من الجُيوب خُلوّاً تامّاً ، كما أنَّ مطّاطَها الَّذي يُحيطُ بِخَصْرِهِ ُيدعو إلى حُكَّةٍ مُستمرَّةٍ كَمَنْ أصيبَ بالجَرَبْ . على العكسِ تماماً ممّا يرتديه البعضُ الآخَرُ منْ زُمَلائهِ فَهُمْ يَنْعَمونَ بِسَراويلَ من القماشِ ذاتِ كَسْراتٍ ثابتةٍ وأنيقةٍ ، ولها جيوبُ كثيرةٌ ، وَتُحيطُ بخُصورهم أحزمةٌ ليِّنةٌ من الجلدِ المُلوَّنِ ؛ وقدْ راقَبَهُمْ الصَّبيُّ كَثيراً وَهُمْ يَضَعونَ أيدِيَهُمْ في جُيوبهمْ ويَتَبَخْتَرونَ جيئةً وَذَهاباً
انتَشَرَتْ على وَجْهِ الأمِّ ابتسامةٌ حَزينةٌ وهيَ تَسْتَمِعُ لشكوى وَلَدِها ؛ وكانَتْ إذاك تُجْري حِسْبَةً بَسيطَةً استَبْعَدَتْ من خلالها احتمالَ شِراءِ بنطالٍ جَديدٍ بِسَبَبِ ظُروفِ الأُسْرَةِ القاسِية ، ولكنَّها وَجَدَتْ حَلاًّ آخَرَ ، فَسِروالُ الأبِ القَديمُ قَدْ يَصْلُحُ لهذِهِ الغايةِ إذا ما تمَّ تَقْصيرُ رِجْلَيْه
وَفِعْلاً كانَ السروالُ جاهِزاً في الصَّباح ، ولكِنَّ مُشْـكِلَةَ الحِزامِ لْم تَخـْطُرْ في بـالِ الأمّ ، فَقَدْ كانَ خصر الوالِدِ يُساوي أضـعافَ خَصر  الوَلَد، فَكَّرَتْ قَليلاً ثمَّ  اسْتَلَّتْ خَيْطاً مِن أحَدِ الأدراجِ وَنَظَمَتْهُ في عُرى البنطالِ حـولَ خصر الصبيِّ ، ثمَّ رَبَـطَتْهُ كَما يُرْبَطُ خَــيْطُ الحذاء !!!
وعَلى أنَّ هذا السروال لم يُضِفْ إلى الصبيِّ أناقةً أو جَمالاً إلاّ أنَّهُ كانَ فَرحاً به ، وَخُصوصاً أنَّهُ الآنَ قادرٌ على أنْ يَغوصَ بِيَديْهِ في جُيوبهِ ويَتَبَخْتَرَ جيئةً وذهاباً أمامَ زُمَلائهِ من الطلابِ .
  تَهامَسَ الطلاّبُ غامِزينَ ولامِزين ، ولكنَّ الصبيَّ كانَ مُنْشَغِلاً عَنْهُمْ بِجُيوبِ بنطالهِ الفضفاض وَبِما ألَمَّ بِهِ مِنْ الرشح .
وَلَمْ يَطُلْ بَقاءُ الصبيِّ في المدرسة ؛إذْ جاءَ أبوهُ لِيَصْحَبَهُ إلى عِيادة الطبيب
***
ها ها ها   . . .  بخ بخ بخ
لمْ يُدْركْ الصبيُّ سَبَباً لهذا الضحك المفاجئ الَّذي تَعالى في صالَة الانتِظار أمام عيادة الطبيب إلاّ عندما شَعَرَ بِبُرودَةِ الَهواءِ وَهْيَ تَلْفَحُ فخذيه ، وَيَدا والِدِهِ تَرْفَعانِ بنطالَهُ الَّذي انزَلَقَ إلى أخَمَصِ قَدَمَيه وَتُعيدانِ رَبْطَ الخَيْطِ  . . . تَماماً كَما يُرْبَطُ خَيْطُ الحذاء‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍!
إحْدى النِّساء الجالِسات في الصالةِ أخَذَتْ تَخْلِطُ بَيْنَ الكُحَّةِ والضَّحِكِ الشَّديدين ، تَمايَلَتْ يَمْنَةً وَيَسْرَةً إلى أنْ سَقَطَ طِفْلُها الرَّضيعُ عَلى البلاط ؛ وَصَرَخَ صَرْخَةً مُدَوِّيةً ، فهاجَ المكانُ وماج ما بينَ ضاحِكٍ من الصبيِّ وراثٍ لحالِ الطفل الرَّضيع. . .
أمْسَـكَ الصـبيُّ بأطـرافِ بنطـالِهِ وانـدَفَعَ هارِباً . . .
وفي اليوم التالي ذَهَبَ إلى المدرسة وهو يرتَدي ذاتَ البنطال (السترتش ) القديم ، لمْ يَكُنْ يَتَبَخْتَرُ في مِشْيَتِهِ ، ولَمْ يكنْ يَضَعُ يَدَيْهِ في أيِّ شيءٍ عَلى الإطلاق . لقد كانَ مُنْشَغِلاً عن الحكَّة الَّتي أصابَتْهُ في وسطه بِمُراقَبَةِ تِلْكَ التَّجاعيدِ الَّتي يَتَغَيَّرُ شَكْلُها كالأميبا .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق