السبت، 1 يناير 2011

كهرباء في جسد الغابة


كهرباء في جسد الغابة

قصة : عبد الله الحناتلة

                                               
السيارة التي استعرتها من صديقي ، توقف محركها فجأة عند أحد تقاطعات الشارع العام المزدحم بالمارة ومحلات الميكانيك ، ونحن الهاربان من عيون الناس وتلصصها ، من ألسنتهم التي تقذف الأحكام الكاذبة ، أكيلُ هذا الحظ العاثر أقذع الشتائم خوفاً وارتباكا ، إلا أنني لمحت في عينيها ابتسامةً هدَّأت من روعي حينما امتدت أناملها من خلف الكرسي عابثة بشعري كأم تهدهد وليدها للنوم .... ابتسمتُ متصنعاً الرجولة حينها ثم حاولتُ تشغيل السيارة التي دار محركها قبل أن يصلنا المتطوّعون لدفعها...
-            لو تدري كيف بدأتَ تجتاح عقلي وعواطفي ... رغم صلابتي التي عرفت !
قالت هذه العبارة بصوت خافت وهي تحملق في الأفق
- كيف ؟
- أتذكر عندما خرجنا والزملاء من مكان  عملنا ننتظر الباص ، قمت أنا بترتيب شالي الذي انحسر عن شيء من عنقي فاستبان لك نحري ، أومأتَ أنت لي برزانةٍ واحترام لأعيده .. استثار ذلك الموقف إعجابي وفضولي  ،كيف امتلكتَ كل هذه الرصانة ؟ كيف استطعت تنبيهي وأنا التي يخشاني الزملاء ؟ وكيف لم ْ تأبه بمفاتن جسدي ؟ أم هي غيرتك عليّ ... جرّني فضولي لكشفك وما كنتُ أدري بأنني أسير إلى أسري .
-   هيه .. على مهلك – كأنك تـَتَقصّد في هذا الطريق الوعر الحجارة والحفر أم أنك لا تجيد القيادة و لا تأبه بسيارة صديقك هذه التي أخشى أن لا يساعدنا الحظ فلا تعيدنا إلى حيث كنا .
-      أنا يا عزيزتي لا أرى الحجارة ولا الحفر فعيوني معلقة هناك في تلك الغابة .. أفتش عن شجرةٍ تؤوينا ، عن لزابة حانية نودعها سرنا .
-        لِمَ هذا المكان ،  ولِمَ هذا الطريق ؟
هذا المكان كي يسعفنا خزان الوقود ، وهذا الطريق لا يسلكه إلا من غالبه الشوق فغض البصر عن وعورته .
 ها هي  وجدتها ... هذه لا بل تلك ، الأرض من حولها منبسطة مرتفعة وهي وارفة الظل على حافة الغابة الملاصقة لحقول القمح ، تحوطها واحة دحنون يؤجج لون الحب ، هنا لا يرانا أحد إلا أننا نستطيع رؤية القادمين إلى هذه الغابة .
مروحية شاهقة الارتفاع ..... تذهب في اتجاه الشمال ثم تعود إلى الجنوب مروراً بأجواء لزابتنا الحبيبة حتى تغيب عن الأنظار لكنها مع كل جيئة لها أو ذهاب تنخفض بارتفاعها قليلاً كأن المكان خلا من كل شيء إلا من تلك المروحية ، ضجيجها يغلب على صوت المذياع الذي كان يغني (فوق عيون الناس ...فوق جبال الخوف .... فوق كل الوجود )
لا أدري لماذا في كل مرة كانت تمتدُ يدي إلى حقيبتها الجالسة بجوارها حاسرة المسافة بيننا وكأني أتطهر لتأدية طقسٍ تعبدي ... مبعثراً أشياءها النسائية (قلم أحمر الشفاه – العلكة – زجاجة عطر –حبات الشوكولاته  مناديلها المعطرة ومرآتها الصغيرة التي كانت تلزمها بعد كل بعثرة) تخطف الحقيبة من يدي التي  تمتد إلى دبوس يمسك شالها المتأهب للانفلات ، أنزعه فينساب الشال بحريرية حانية عن شعرها المسترسل كالليل ليشكل ستارة لعنقها ناصع البياض ...  أُخَصِّــل شعرها ، أداعب حَلَقَها المتدلي غنجاً واستفزازاً ، أنزعه بحركات استعراضية كقائد للأوركسترا ، أشتم عطرها مشحوذ العبق ذاك الذي تخبئه دوماً خلف هذا الحَلَق ....أتذوقه كمن يبدأ باحتساء قدحه ...أفحُّ كما أفعى أعزف رجولتي  سمفونية لحضرة أنوثتها ، لاشتهائها المتمترس خلف ادعاءاتها الواهية بالتمنع .
الناظر إلى تنورتها المخملية داكنة السواد ، لا يعلم بكمِّ البياض الفاجر الذي تخفيه , لا يعرف كيف ينبلج ساقها فجراً ، لا يدرك حجم الفوضى الذي يحدثه انحسار تنّورتها بانثناءاتها الأنثوية عما فوق ركبتيها ، لن يتخيل الارتباك الذي فجره خيط الشمس المخضب برائحة اللزاب المتسلل من بين أغصان وأوراق هذه اللزابة مشيراً إلى ما بين نهديها .
-              يقال أنك شاعر ، لِمَ لا تقول فيّ قصيدة ًغزلية ؟ ... إنني أتشوق لسماع كلمة أحبكِ !
-      ربما لأن هذه الكلمة عاجزة ولا تفي بما أكنُّ لك في نفسي .... فأنا صوفي يتلذذ في تنقل روحه من مقام إلى مقام ... أنا لا أستطيع تصغير ما في نفسي إلى حجم هذه  الكلمة ... هذه الكلمة يتقن قولها السكارى والغانيات ، كلمة ترقبها العيون ، وسذاجات الصبية ، كلمة يرددها العسس والجلادون ، أما أنا فأستطيع إسماعك صوتاً آخر... قصائدَ أخرى ..ارقبي عندما تنفلت إحدى عنابتيك بنعومة كسلى وخجلى من بين شفتي .... لتلاقي العنابة الأخرى ، صوت التلاقي الممزوج بريقينا ، هو صوت لا يسمعه أحد ولا يفهمه أحد ويعجز عن وصفه الشعراء .
تقترب الطائرة أكثر ، وتثير سخطي وضجري أكثر ، هواء مروحتها أغلق باب السيارة كما عاصفة تسونامي ..ذهب ببطانية كنا نفترشها بعد أن نهضنا عنها متعانقين تستراً وخوفاً ، منذ ساعة وهي تمزق أجواءنا وأفئدتنا وتكّسر أغصان لزابتنا المرتفعة كأننا مهمتها الوحيدة ؟ هل تمنعها الأشجار من الانقضاض علينا ، أم هو جوعٌ لما نحن فيه يأكلُ أحشاءَ طاقَََمِها ؟
 *(كان بهيبة من يدعي الوقار يرتدي مهابته العسكرية ، جالساً في الصفوف الأمامية مع أولئك الذين هم أهم من أن يطربوا ، مكتفين عندما تلتهب القاعة بصوت الفرقان(أليف يا سلطاني ... والهجران كواني ) بجهد التواضع والتكرم على المغني بتصفيق رصين خشية أن تتناثر عن أكتافهم نجومهم المثبتة بغراء هيبتهم الزائفة ، أشفق عليه ، إن رجلاً لا ينتفض منتصباً في لحظة الطرب هو حتماً فاقد للارتعاش في حضرة النشوة ) .
كل شيء فيك يؤثث رغبتي .... فمذ كنت أرقبك وأنت تحادث الزملاء كان يشدني إيقاع شفاهك .. صوتك الممزوج ببحةٍ حانية ودفء رجولي غريب .. والآن لا أدري إن كنت تقرأني أم تكتبي على نظام (بريل ) ها أنت تتلمس كلّ تفاصيلي ، تبدد عتمتي وجهلي بالرجال ، تسوطني بنظرات الاشتهاء على مخابئ خجلي... تبددني ... تعري دواخلي – كاشفاً أغوار تلهفي الدائم إليك .. تشعلني حتى أني أخشى أن يصل هذه الغابة بعض من لهيبي فيفتضح أمرنا ، أقتحمك باشتهاء دائم ، أتحرق فيك حد المتعة وعندما تتعانق الشفاه تعبرني أنفاسك كما جيوش بدائية أتاهتها الصحارى فصادفت جدولاً عذباً ، كما ضباب يتسلل بين الغابات متهيئاً للاشتعال .. أشتعل متلذذاً فيك حدَّ الانطفاء .
قطعاً ظنوا أني أكوِّر يدي حول قنبلة إذا ما لامَسْتُُ فتيلها بزغ فجر الحياة ، إنهم يتلمسون تلك الكهرباء التي تسري في جسد الغابة ، تمدُّ حبوب اللقاح بنشوتها الخفية ، توقد أجنحة المواسم كي تفيض عشقا خالداً ، وتعانق احمرار الدحنون ليتأجج الكون عشقاً . فيا له من سلوك مريب يستدعي كل جيوش العالم كي تنقض عليه ؟!
عادت هذه المرة أكثر انخفاضاً ،عادت بعد أن أفرغت خزان وقود سيارة صديقي وجيوبي ليمتلأ خزانها  بالنفط ثم تعلوني وترقبني كي لا تتدفق حمم عشقي الملتهب .
لا أدري كيف بزغ صوت والدي من سنابل القمح المتموجة ...من وهج الشمس المعتق  في قضاضته  المعصوبة على رأسه في موسم الحصاد وصدى صوتِه يداعب السنابل كما موجة رقيقة تطرب الحصادين ،  فتردد خلفه الحقولُ نشيده .
                  منجلي وامِنجلاه ...  
                             راح للصايغ جـــلاه
                  ما جلاه إلا بعلبة ...
                                ريت العلبة عزاه

                  منجلي يابـو رزة ...

                                 وش جابك بــلد غزة

                  جابني الجــــابني  ... 
                                  جابني حـــب البنات
                  أم عيون مكحلات ... 
                                    أم عيون سود لـــــود
                  والحواجب مقرونات...     
                                    مقرونات براس عود
ولفرقنا ما يسود .......

       أنت التي كلما سكنتها أكثر انتميت إلى الأرض التي تتشرف بوطء أقدامها  المحمرة كعوبُها أنوثة وخجلاً ، أتلذذ بالتعامل معها بغباء فطري ، أعانقها حد الالتصاق... ألتصق بها حدَّ الاندماج ، أندمج فيها حدَّ التماهي، أتماهى فيها حدَّ الفناء... حد الولادة فهكذا اللقاء بها موت وبعث من جديد .
السيارة تتأرجح من شدة الريح ... ستهبط هذه الطائرة فوقنا .. ماذا سأقول لصديقي إن تحطمت سيارته ... أخشى على أشيائها النسائية أن تتبعثر ... أن نفقد شيئاً من ملابسها ، أخشى أنهم يحملون آلات تصوير  ، سيخرسون لساني للأبد .... ها هي عيونهم الحاقدة ، ضحكاتهم الماكرة ... إيماءاتهم الساخرة ، متعتهم بوجعي وألمي
 ... ارتفعت اللعينة قليلاً ...ابتعدت قليلاً .. لكنها قطعاً ستعود سريعاً  كما ثور إسباني في حلبة مصارعة .
* عن أحلام مستغانمي في رواية ذاكرة الجسد

اقرأ أيضاً على حبيبتنا

أنشودة العرب، شعر: علي طه النوباني  

بنما دولة بعيدة... ومُشوِّقة جدا  

الأزمة الاقتصادية، ومصالح الطبقات  

قراءة في رواية دموع فينيس لعلي طه النوباني  

عَهْدُ فلسطين - عهد التميمي  

كذبة نيسان  

الشوكُ جميلٌ أيضا  

«مدينة الثقافة الأردنية».. مراجعة التجربة لتعزيز الإيجابيات وتلافي السلبيات  

المشنقة  

البيطرة  

قصة نظرة  

عملية صغرى  

سيجارة على الرصيف  

بالشوكة والسكين والقلم  

نهاية التاريخ؟ مقالة فرانسيس فوكوياما  

الدولة العربية الإسلامية / الدولة والدين/ بحث في التاريخ والمفاهيم  

شهامة فارس  

جذورالحَنَق الإسلامي برنارد لويس  

صِدام الجهل : مقالة إدوارد سعيد  

صدام الحضارات؟ صموئيل هنتنغتون 

الفضائيات والشعر  

كأسٌ آخرُ من بيروت 

عمّان في الرواية العربية في الأردن": جهد أكاديمي ثري يثير تساؤلات 

تشكّل الذوات المستلبة  

مشهد القصة بين الريف والمدينة  

وحدة الوجدان والضمير  

«المنجل والمذراة».. استبطان الداخل  

دور المثقف والخطاب العام  

جرش: حديث الجبال والكروم  

في شرفة المعنى 

المثاقفة والمنهج في النقد الأدبي لإبراهيم خليل دعوة للمراجعة وتصحيح المسيرة  

!!صديق صهيوني  

عنترُ ودائرةُ النحس  

فجر المدينة  

مقامة الأعراب في زمن الخراب  

دورة تشرين 

الغرفُ العليا  

الصيف الأصفر  

حب الحياة: جاك لندن 

قصة ساعة كيت تشوبن 

قل نعم، قصة : توبايس وولف 

معزوفة الورد والكستناء  

منظومة القيم في مسلسل "شيخ العرب همام"  

ملامح الرؤية بين الواقعية النقدية والتأمّل  

الرؤية الفكرية في مسلسل «التغريبة الفلسطينية»  

"أساليب الشعريّة المعاصرة" لصلاح فضل - مثاقفة معقولة  

كهرباء في جسد الغابة  

جامعو الدوائر الصفراء  

صَبيَّةٌ من جدارا اسمُها حوران  

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق