الخميس، 30 ديسمبر 2010

قاعة فارغة


قاعة فارغة


علي طه النوباني



ـ أعْتَقِدُ أنَّ زَميلي يَقْصِدُ
ـ ليـسَ مِنْ حَقِّكَ أنْ تَتَحَـدَّثَ عمّا يَقْصِدُهُ زَميلُك .
وَجَّهَ الأستاذُ هذِهِ العِبارَةَ لي بحَنَقٍ وَعَصَبيَّة ، وسرعان ما اسْتَدارَتْ عُيونُ الطُلابِ جَميعاً باتِّجاهي الكرةُ في مَلْعَبي الآنَ مِنْ حَقِّي أنْ ارْفُضَ هذِهِ الدكتاتوريَّة الساحِقَة .
نَفْسُ هذا الأستاذ هو الذي ألقى خُطْبَةً عصماء في المحاضَرَةِ الأولى ؛ وشَدَّدَ عَلى أهميـَّةِ مُشـارَكَةِ الطالبِ وتَفاعُلِهِ في مادَّة المساق ؛ وأنَّ دَوْرَهُ كأستاذٍ جامعيٍّ يَتَلَخَّصُ في توجيهِ قِراءاتِ الطلاب وحِواراتِهِم المثمرة والمفيدة ، وخصوصاً أنَّ المادَّةَ الَّتي يُدَرِّسُها هي الأدب .
ليسَ هذا فقط
لقدْ شارَك بالأمسِ في ندوةٍ مفتوحة تَحَدَّثَ فيها مَعْ عَدَدٍ مِن الأساتذة عن الفارق بين التعليم المدرسيّ والتعليم الجامعيّ ، قالَ أنَّ التعليم الجامعيّ يجب أن لا يَنْزَلِقَ إلى ما انزلق إليه التعليمُ المدرسيُّ من تَلقينٍ مُباشـر واستبدادٍ في الرأي ، يَجِبُ أنْ يُرَكِّزَ التعليم الجامعيّ على دعم شخصيّة الطالب ؛ واكتشاف قدراته بكلِّ الوسائل الممكنة ، يجب أن تَكونَ حِصَّةُ الطالبِ في المحاضرة أكبَر من حصَّة المدرِّس .
وهكذا زاوَدَ الأساتذة جميعاً في تلك الندوة على شِعاراتِهم الَّتي طَرَحوها شَخصيَّة الطالب الحوار البنّاء الديمقراطيَّة الخ الخ
وها هو الآنَ للمرَّةِ العاشرةِ يَخْلعُ نَظَّارَتَيْهِ الكثيفتين وَيَقْفِزُ منْ وراء طاولتهِ وكَأنَّما هو ذئبٌ يَهوي عَلى فريسةٍ سَهْلَة وكلُّ هذا لماذا لِمُجَرَّدِ أنَّني حاولتُ أن أدافِعَ عَنْ رأيِ زَميلي الَّذي رَفَضَهُ الأستاذُ بشدَّة وَجَزَمَ أنَّه خاطِئ
ليسَتْ هذِهِ أوَّلُ مَرَّة يَسْخَرُ فيها من آرائنا ، لقد رَمَقَني بالأمسِ بنظرة عَميقةِ السُّخريةِ عِندما تَحَدَّثْتُ عن النزعةِ الوُجوديَّةِ في النصِّ الَّذي دَفَعَ بهِ إلينا ، وقالَ لي : اصْمِتْ يا هذا ، فماذا تَعْرفُ أنتَ عَنْ الوُجوديَّة
ما أسخَفَني !!
كانَ يَجبُ أنْ أدْركَ المسافةَ بينَ ما يُقالُ في النَّدواتِ والمحاضراتِ العامةِ والصُّحفِ والمجلاّتِ وبيَن ما هو حادِثٌ فعلاً
النظريَّةُ شيءٌ والواقعُ شيءٌ آخر
الغَريبُ أنَّ أستاذي قد أبْدى إعجابَهُ بقُدْرَةِ نجيب محفوظ الفذَّة في بناء شخصيَّة السيِّد أحمد عبد الجوّاد ، وركَّز على فكرةِ الازدواجيَّةِ الَّتي رأى أنَّها صِـفَةٌ سـلبيةٌ طـاغيةٌ في الشخصيَّةِ العربية ؛ وربَّما تكونُ أهمَّ أسبابِ تخلُّفِ الأمَّةِ وانهيارها
هِهْ كيف لم يَنْظُرْ أستاذي في المرآة !!
ـ لماذا تَصْمِتُ ألديكَ شيءٌ آخر ؟
صَحَوْتُ مِنْ ذُهولي على هذا السُّؤال الَّذي تفوحُ منهُ رائحةُ السخرية ، واستَدارَت العيونُ نَحْوي من جَديد ، كانَتْ أشداق أستاذي مُنْتَفِخَةً وكأنَّها تَنْطَوي عَلى أفٍّ ثقيلة ، تمنَّيتُ لو أستطيعُ أنْ أمزِّقهُ إرباً .. إرباً .. ولكن ..
ـ إنَّك تُفسد عَلَيَّ مَنْهَجي في التدريس ، اسْحَب المساقَ وأرحْني مِنْ مُشاكَساتِك
هه مَنهَجُك !!   أيُّ منهجٍ هذا ؟ إنَّكَ تُلْقي عَلينا آراءَكَ وَكَأنَّها نَواميس الطَّبيعةِ الثابتة الَّتي لا تَبْديل لها ، وتَبْطِشُ بكُلِّ مَنْ يُعارضُ أو يُناقِش وكيفَ أسحب المساق؟  إنَّ ذلك يَعْني أنْ أدفَعَ الرُّسومَ مرَّةً ثانيةً ، وأنْ يَتَأخَّر تَخَرُّجي مِن الجامعة   زوجَتي تَنْتَظِرُ أنْ أشتَري لها ثوباً جديداً ، وأن تُواظِبَ على زيارَةِ عِيادَة الطبيب ، وجِلدي يَنْتَظِر أن يَكْسوهُ قَميصٌ خالٍ من الخُدوش والجُروح ، ولكنْ هيهات فَأنا لا أنْفَكُّ أعَلِّلُ نَفْسي وأعِدُ زوجتي بينما يذهبُ  راتبي الصغيرُ للرُّسومِ والدَّفاتر والكتب والذَّهاب والإياب .
ليْتَكَ يا أستاذي تَعْرفُ أنَّ الكثيرين من زملائي الذينَ كانَ واحِدُهُمْ  يَنْقُرُ حُفْرَةً في ظَهري لِكي يَغُشَّ مِنّي في الامتحان يُحَضِّرون الآنَ لِنَيْلِِ دَرَجَةِ الدكتوراة ، لا لِشيء إلا لأنَّهم يملِكون ما يَدْفَعونَهُ لِهذِهِ الجامعات الَّتي لا تَفْتَحُ ذِراعَيْها إلاّ لمن يَدْفَعون
وسرعان ما تَمَثَّلَتْ أمامَ عُيوني صورةُ صَديقي بشَعْرهِ الطويلِ المتَجَعِّد ومَلابسِهِ القَديمةِ وذقْنِهِ الَّذي غابَتْ عَنْهُ الحِلاقَةُ أسابيعَ طويلة لقد جَرَّب كُلَّ أنواع العَمل لِيَقومَ بمصاريف الدِّراسة في الجامعة ؛ عَمِلَ عَتَّالاً وَجَرْسوناً وحتَّى عامِل تَنْظيفات
بالأمسِ رَأيْتُهُ وَسَألْتُه إذا كانَ قَدْ سَجَّلَ للدِّراسةِ في الفصلِ القادم ، نَظَرَ إليَّ بعَيْنَيْهِ الغامِضَتَيْنِ الحزينتين ـ رَأيتُ فيهِما شيئاً يُشْبهُ الدُّموع ـ وقال : كلُّ ما جَمَعْتُهُ مِنْ عملِ ثلاثة شهور لا يَكْفي لدفعِ الرُّسوم ..
ـ هاه ما لَكَ تَصْمِت
قالَ ذلكَ وهو يُعيدُ تَغْطِيَةَ عَيْنَيْهِ الساخرتين بذاتِ النظارتينِ  كِدْتُ أن أمزِّقَ قَميصي مِن شِـدَّةِ الغَيْظ  وغَمْغَمْتُ  بهدوء:
ـ لا لا رَغْبَةَ لي في الَحديث .
ـ هذا أفْضَل
استدارَتْ عَنّي العُيون وتَغَلْغَلَ في جوفي إحساسُ بأنَّ القاعةَ فارغةٌ إلاّ من صورَةِ صَديقي وَهو يَجوبُ شَوارعَ المدينةِ ليلاً لِيَجْمَعَ سَلاّتِ المهملاتِ أمامَ بُيوتِ زُمَلائِهِ الَّذين يَنْعَمونَ بساعاتٍ هادئةٍ أمامَ كُتُبهمْ ودفاترهم.

                                1996 
                 





                                                                

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق