الخميس، 30 ديسمبر 2010

دائرة ونقطة


دائرة ونقطة

قصة: علي طه النوباني

- إذا رسمنا حرف X  ووضعنا في الجزء العلوي منه دائرة صغيرة هكذا…. سيبدو الشكل شخصاً في الفراغ.
 قام برسم الشكل على اللوح ثم تابع حديثه:
- وإذا رسمنا إلى جواره شجرة هكذا ... سوف نقتل الفراغ ...
  صمت قليلا ونظر نحو النافذة ، كان يتأمل أشجار السرو وهي واقفة في الحديقة مثل مثلثات سريالية غامضة، ثم أضاف : إذا رسمنا دائرة ووضعنا في داخلها نقطة سوف نسمع نحيبا شديدا وبكاء مؤلما ، حتى نضع إلى جوارها نقطة أخرى فتبدو وجهاً شاحباً خالياً من المعالم.
 في تلك اللحظة سمعت نحيباً شديداً وبكاءً مؤلما لم أعرف مصدره ، ورأيت دموع المحاضر العجيب وهي تسيل على وجنتيه، لكنه لم يخجل من الدموع ،لم يمسحها إلا بما يكفي لإزالة الحكّة الناتجة عن حرارة الدمع . كانت أنظار الجميع مسلطة على الدائرة والنقطة التي تسكنها المرسومتان على اللوح.
نهض أحدهم بهدوء ناظرا نحو السقف بعينيه المحولتين،  قال :  ماذا لو رسمنا دائرة ثم وضعنا في داخلها الشكل X ؟
اقترب من اللوح ورسم الشكل : هكذا ...
مدَّ الأستاذ يده إلى شعره ومسح عليه من الأمام إلى الخلف : أنا عموماً لا أحب هذا الشكل ، إنه يشعرني بالتناقض بين حنان الدائرة وقسوة التضارب ويذكرني بدوّار مغلقٍ في نهاية شارع ربما لتحويلهِ إلى إشارة ضوئية أو جسر .
-      جسر ... أم إشارة ضوئية ؟
  رد السائل وهو يسلِّط نظره على السقف من جديد.
-      أنا أفضل الإشارة الضوئية على علاتها!
-      لماذا؟
-      لأن الجسور هنا لا توصل إلى الهدف ، لقد مشيت على أحد الجسور مرة ، كنت عائدا إلى أسرتي ، ولكني وجدت نفسي هنا ، ومع الأيام نسيتُ أسماءهم وملامحهم رغم أن أصواتهم الجميلة ما زالت تلمع في عيوني؟
***
قبل شهرين فقط وتحت الشجرة التي كنت أجالسه تحتها سألني صديقي :" هل تحب الزير سالم " فأجبت : لا ، قال : لماذا ، فقلت بتردد : عندما أجلس مع هؤلاء الذين يرون في أنفسهم أبطالا أحاول أن أتفهّم بطولتهم ،لكنني على كل حال أعرف أن العنقاء مجرد أسطورة ، وأن أحلامنا في مواجهة قوة الزمن ما هي إلا عبث مع المستحيل ، هؤلاء كلهم مجردُ نماذج لامتناهية من الدون كيشوت يجوبون شوارع هذه المدينة ويهزون سيوفهم في كل الاتجاهات ...ما عدا اتجاه أنفسهم ...
-ياه ... ما أجمل الإقامة في العنبر 10؟
قلت بحماسة : لقد تكونت لدي رغبة شديدة في ذلك ،ولكن كيف ؟
-هل أنت جاد ؟
-نعم؟
-سأعد لك كل شيء .
***
سألني الحارس وأنا أدخل الباب الرئيس فقلت له : نزيل جديد.
ضحك وهو ينظر إلى أوراقي الثبوتية، وأشار إليَّ أن تفضل بالدخول ... وربما كنت النزيل الأول الذي يدخل إلى هنا سيرا على قدميه دون أن يجره أحد وهو مشدود الوثاق !
تذكرت ما قاله صديقي أثناء مسيري نحو غرفة المدير : " المدير شخص طيب جدا على الرغم من منظره المثير للريبة قل له أنك مجنون مثقف تحفظ خارطة العالم وتعرف عن مشاكل البيئة وظاهرة الدفيئة والقضية الفلسطينية والوحدة العربية ... الخ ... وأنك ترغب في الإقامة في العنبر 10!
كان المدير قصير القامة يرتدي (روب) أبيض ذو رأس مكعب تقريبا وعينين مسطحتين وأنف مستقيم كأنه مثلث .
نهض المدير من وراء طاولته وسار نحوي ثم دار حولي وهو يتفحصني ، وتوقف ناظراً نحو لوحة معلقة على الجدار مرسوم عليها دائرة في وسطها نقطة على خلفية بيضاء.
-      هل تحب اللون الأبيض ؟
-      لا !
-      هل تحب الزير سالم؟
-      لا !
اقترب من طاولته وضغط على زر مثبت عليها فدخل رجل من الباب أمره باصطحابي إلى العنبر 10، وتركته يتأمل اللوحة ذاتها .
***
كان النزلاء يجلسون على شكل نصف حلقة يتقدمها رجل ناحل ذو انف صغير وعينين غائرتين وجبهة عريضة ،وله صلعة لامعة في زاويتيها الخلفيتين خصلتا شعر نافرتان .
-      إذا وضعنا حجراً صغيراً فوق حجر كبير ماذا سنرى ؟
حسناً يبدو أننا سنرى هرماً بسيطاً ، ولكن لو كسونا الحجر بقطعة من القماش الأسود فسيكون الأمر أقرب إلى فزاعة ... والفزاعة هي حارسٌ مجانيٌّ على رغباتنا الدفينة ، تموت الطيور جوعاً ونحنُ نشربُ الفراغ ونشكل من القماش أمجادنا الكاذبة وبطولاتنا الزائفة...
سألني أحدكم قبل أيام ... من هو البطل ؟ لقد عرفت الكثيرين ممن رأوا في أنفسهم أبطالاً ، أحدهم مثلا كان عاديا جدا،كانت أصابعه ناعمة وليس في وجهه ما يشير إلى ضربة سيف أو لسعة قضيب متوهج أو حتى إحساس بمأساة وجودية مؤلمة ، كان يكسو الحجارة بالقماش الأسود ، وكان لا يحب الطيور!
ضحك الأستاذ بأعلى صوته.
أي بطل هذا الذي لا يحب الطيور؟!
لا بد دائما أن أعرج على الجغرافيا ، وكما تعرفون فقد تجاوزنا هنا في العنبر 10 الجغرافيا الكلاسيكية وتخلينا عن الحدود وجوازات السفر ، ولا بد أن تعرفوا أنني راحل إلى ريوديجانيرو ...
قفز أحدهم :
-      ماذا ستفعل هناك... هل ستشاهد السامبا ... أم أحياء الصفيح ؟
-      ربما كلاهما ... سأكون شاعرا عندما أشاهد السامبا وبطلا وجوديا عندما أشاهد أحياء الصفيح وطفلا عندما أغازل السمراوات الجميلات ؟!
-      دخل إلى الغرفة ممرض يحمل حقنة : حان موعد الحقنة يا أستاذ !
حصل الأستاذ على جرعة كافية وغادر أرض الوطن على سريره الأبيض .



اقرأ أيضاً على حبيبتنا

أنشودة العرب، شعر: علي طه النوباني  

بنما دولة بعيدة... ومُشوِّقة جدا  

الأزمة الاقتصادية، ومصالح الطبقات  

قراءة في رواية دموع فينيس لعلي طه النوباني  

عَهْدُ فلسطين - عهد التميمي  

كذبة نيسان  

الشوكُ جميلٌ أيضا  

«مدينة الثقافة الأردنية».. مراجعة التجربة لتعزيز الإيجابيات وتلافي السلبيات  

المشنقة  

البيطرة  

قصة نظرة  

عملية صغرى  

سيجارة على الرصيف  

بالشوكة والسكين والقلم  

نهاية التاريخ؟ مقالة فرانسيس فوكوياما  

الدولة العربية الإسلامية / الدولة والدين/ بحث في التاريخ والمفاهيم  

شهامة فارس  

جذورالحَنَق الإسلامي برنارد لويس  

صِدام الجهل : مقالة إدوارد سعيد  

صدام الحضارات؟ صموئيل هنتنغتون 

الفضائيات والشعر  

كأسٌ آخرُ من بيروت 

عمّان في الرواية العربية في الأردن": جهد أكاديمي ثري يثير تساؤلات 

تشكّل الذوات المستلبة  

مشهد القصة بين الريف والمدينة  

وحدة الوجدان والضمير  

«المنجل والمذراة».. استبطان الداخل  

دور المثقف والخطاب العام  

جرش: حديث الجبال والكروم  

في شرفة المعنى 

المثاقفة والمنهج في النقد الأدبي لإبراهيم خليل دعوة للمراجعة وتصحيح المسيرة  

!!صديق صهيوني  

عنترُ ودائرةُ النحس  

فجر المدينة  

مقامة الأعراب في زمن الخراب  

دورة تشرين 

الغرفُ العليا  

الصيف الأصفر  

حب الحياة: جاك لندن 

قصة ساعة كيت تشوبن 

قل نعم، قصة : توبايس وولف 

معزوفة الورد والكستناء  

منظومة القيم في مسلسل "شيخ العرب همام"  

ملامح الرؤية بين الواقعية النقدية والتأمّل  

الرؤية الفكرية في مسلسل «التغريبة الفلسطينية»  

"أساليب الشعريّة المعاصرة" لصلاح فضل - مثاقفة معقولة  

كهرباء في جسد الغابة  

جامعو الدوائر الصفراء  

صَبيَّةٌ من جدارا اسمُها حوران  

 

  

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق